يسود انطباع بأن زيارتي كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 2 و3 مايو على التوالي إلى روسيا، تبشران بتحريك المياه الدبلوماسية والسياسية الراكدة بين روسيا وكل من ألمانيا وتركيا. وتم تحميل أجندتي الزيارتين كما هائلا من البنود والقضايا: من مكافحة الإرهاب إلى الوساطة بين بوتين وترامب، مرورًا بسورياوأوكرانيا وحلف الناتو والأمن الأوروبي والعلاقات التجارية - الاقتصادية والطاقة والعلاقات الروسية - الأمريكية. ولكن ميركل التي تنظم في بلادها قمة العشرين في يوليو المقبل، تريد أن تضمن مشاركات فعالة وبنَّاءة وإيجابية من جهة، وفوائد انتخابية داخلية من جهة أخرى، خاصة أن الانتخابات الألمانية ستجري بعد قمة العشرين. وفي الحقيقة، فميركل توجهت إلى روسيا لإبلاغ بوتين بجملة من الرسائل المهمة، وهي التي زارت الولاياتالمتحدة، ثم زارت السعودية والإمارات قبيل وصولها منتجع سوتشي على البحر الأسود للقاء بوتين. السيدة ميركل تريد ببساطة أن تبلغ الرئيس بوتين بأن ألمانيا في صف واحد مع محيطها الأوروبي بشأن أوكرانياوسوريا، وأن لا خلافات جوهرية مع الولاياتالمتحدة أيضا في هذين الشأنين. وتريد أيضا أن تؤكد أنه حتى إذا كانت هناك بعض التباينات في الآراء ووجهات النظر، فهذا لا يخص روسيا، ولا الموقف منها، وإنما يخص الأسرة الأوروبية، وعلاقات التحالف الأوروأطلسية - الأمريكية. هذه الرسائل مهمة للغاية في ظل الشعوذة السياسية والإعلامية الروسية التي تتصيد الجمل والعبارات وتجتزئ التصريحات، وتبني سيناريوهات وهمية بشأن انهيار الاتحاد الأوروبي، وتفكك حلف الناتو، والصراعات الأوروبية الحادة التي تنبئ بانهيار أوروبا وأمريكا، وسيطرة روسيا على العالم لا بالسيف، بل بالهداية والعودة إلى الطريق الروسي القويم. ألمانيا هي إحدى قاطرات الاتحاد الأوروبي الرئيسية، وإحدى أهم قاطرات الاقتصاد العالمي، ومن الصعب أن نتصور أنها تتودد إلى روسيا أو تحاول الخروج على الإجماع الأوروبي. هذه تهيؤات موسكو وضلالاتها السياسية والإعلامية. كل ما في الأمر، أن هناك رسائل ضمنية، وأخرى غير علنية، تتضمن ضرورة عودة روسيا إلى الإجماع العام للحفاظ على أمن العالم، وبطبيعة الحال، فروسيا ليست مطالبة بتنفيذ هذه الضرورات والمطالب، لأن الغرب يطالب بما يتوافق مع مصالحه وسيناريوهاته، ويخدم خططه ومخططاته، ولكن توازن القوى الموجود حاليا يفرض على هذا الطرف أو ذاك الاستماع إلى مطالب الطرف الآخر، لكي لا يفلت زمام الأمور، ويجد العالم نفسه أمام أزمة غير محمودة العواقب. ميركل بزيارتها روسيا ترى أن الوقت لم يفت بعد لتحديد المتجهات وتبادل الرؤى حول أوكرانيا بالدرجة الأولى، وحول آليات تنفيذ اتفاقات مينسك، وتفادي المواجهات في شرق أوكرانيا، وهي في الوقت نفسه لا تستطيع إلغاء العقوبات ضد روسيا، ولا حتى تخفيفها. الأمر يتعلق بمبادرات حسن نية، ورسائل تتضمن إنذارات دبلوماسية، ومن الممكن أن ينظر الغرب في ما بعد في أمر العقوبات، أي ببساطة، لن يتم رفع العقوبات أو تخفيفها عن روسيا على المدى القريب والمتوسط. لا وساطة لميركل بين بوتين وترامب، لأن الأخير قادر على الاتصال بالأول في أي وقت تحدده واشنطن وليس موسكو. وبوتين، في وضعه الحالي، بحاجة ماسة إلى اتصالات ومبادرات ومباحثات ومؤتمرات وقمم، حتى ولو كانت شكلية. وواشنطن تدرك ذلك جيدا، وتحرمه من الكثير من كل ذلك. هناك بالفعل حرب باردة غير عادية، تدفع موسكو إلى التشدد والتعصب والمضي قدما في ما بدأته بصرف النظر عن صحته أو خطئه، فالضغط يولد التشدد والانفجار. ولكن إلى متى ستصمد روسيا واقتصادها على هذا الطريق؟ وهل موسكو لديها القدرة على مواجهة كل هذه الضربات التي تتوالي عليها من جميع الاتجاهات؟ من الصعب أن تسفر زيارة ميركل عن نتائج مذهلة، أو حتى متواضعة، إنها زيارة رسائل، وعلى روسيا أن تستمع، وانتهى الأمر. زيارة أردوغان تشترك مع زيارة ميركل في الكثير من الإسقاطات السياسية، فأردوغان المنتصر داخليا وخارجيا يزور بوتين المحاصر من كل الجهات. ولا يمكن تجاهل التقارب الأمريكي - التركي، واستمرار أنقرة في عملياتها العسكرية ليس فقط في شمالي سوريا، بل وفي مناطق أخرى سيتم الإعلان عنها قريبا. فماذا يريد أردوغان من بوتين هذه المرة، خاصة أن الزيارة تجري تزامنًا مع بدء جولة جديدة من مفاوضات أستانا حول الأزمة السورية، وأن روسيا لديها مبادرة مهمة بشأن إعلان 4 مناطق آمنة في سوريا يجب أن تتمتع بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات والحظر الجوي، وربما أيضا بوجود قوات دولية من أطراف محايدة لفصل قوات الأطراف المتحاربة؟ أردوغان يتوجه أيضا إلى روسيا لإبلاغ رسائل ضمنية، وأخرى غير معلنة، بعيدًا عن الوساطة بين بوتين وترامب، وبعيدًا عن التحالف العسكري مع موسكو في سوريا، وأبعد ما يكون عن منح بوتين أي أوراق سياسية أو دعائية، إلا بقدر ما يقدم له بوتين في سوريا. ميركل وأردوغان المختلفان والغاضب أحدهما من الآخر يزوران بوتين في يومين متتاليين، ومع ذلك، من المستحيل أن يتصور أحد إمكانية قيام بوتين بوساطة ما بينهما، لأن الأمر لا يتعلق بروسيا ولا شأن لموسكو به، وإنما يتعلق بعضوين حليفين في الناتو، وبدولتين تمثل إحداهما للأخرى الشريك التجاري الأول في العالم على الرغم من الخلافات بينهما. بينما حجم التبادل التجاري بين روسياوألمانيا انخفض من 80 مليار دولار عام 2015 إلى 50 مليار دولار في عام 2016. ميركل وأردوغان يتوجهان إلى روسيا لأمور تتعلق بأوكرانياوسوريا على الترتيب. بينما الولاياتالمتحدة وحلف الناتو يتوليان ترتيب الأوراق والبنود الأخرى، مثل توسع الناتو شرقا، ونشر الدرع الصاروخية في أوروبا، ومنظومة ثاد في كوريا الجنوبية، وتنفيذ سيناريوهات معينة لترتيب الأمور في سوريا بصرف النظر عن الوجود الروسي، وحشد دول الشرق الأوسط والخليج العربي لأدوار مستقبلية من أجل ترسيم حدود النفوذ الروسي الذي لا شك أنه يتماس أو يتقاطع مع النفوذ الصيني. وهذه ورقة مستقبلية أخرى يجري الترتيب لها في سياقات أخرى، قد نشهدها خلال الأعوام المقبلة.