أعلن رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات عن ملفات فساد طالت عددًا من الجهات الرسمية، فى وقت أدانت فيه الحكومة الرجل وشككت فى نياته! كما يتطوع عدد من الأشخاص (إعلاميين وسياسيين) بالهجوم على الرجل وإلصاق التهم به. فوقعنا فى حيرة وتساؤل. لكن أعتقد أن ما يحسم الأمر- بجانب وطأة الفساد الذى نعيشه- هو كون ثلة المشككين برئيس الجهاز وقادة الحملة ضده، هم ممن تولوا نفس المهام طوال العقود الماضية «تشويه سمعة كل من تجرأ على نقد السلطة». اليوم يشككون فى انتماءات رئيس الجهاز ويتهمونه، يتغافلون أننا وفق التقارير المحلية والدولية، قد تفوقنا على معظم دول العالم فى سجل الفساد! الفساد الذى اندلعت ثورتين فى مصر بسبب استفحاله وتكريس وتوريث آلياته. فهل يمكن أن نصف الصراع الدائر بين الجهاز المركزى والحكومة اليوم، بأنه صراع بين دولتين، دولة قديمة تحافظ على مكاسبها وامتيازاتها، ودولة تحاول شق طريقها، ولن تستطع بناء قواعدها إلا بالقضاء على الفساد؟ هدم دولة تَوافُق السلطة والمال على نهب ثروات البلد والإطاحة بحقوق الناس؟ دولة استفحل الفساد فى قمتها، وتغلغل تدريجيا فى أوصالها. صار الفساد ثقافة شعب، سلوك طبيعى وليس جرمًا ومهانة. دولة المحسوبية والرشاوى والامتيازات والعمولات، دولة عفنت وانهارت أمام سخط الناس، لكن يبدو أنها لا تزال تُعافر من أجل البقاء واستكمال مسيرتها الفاشلة. فضَح رئيس الجهاز ملفات طال السكوت والتستر عليها، وبدأ التحقيق فى ظل مقاومة أجهزة رسمية! لكن الحدث الهام فى حديث الرقابة والفساد، هو إعلان القوات المسلحة فتح ملفاتها وأجهزتها لرقابة المركز، وإن صح ذلك انهارت مقولة أجهزة سيادية تستعصى على الرقابة، كما ساد فى عصر مبارك. فهل يطمئننا ذلك إلى وجهة الدولة الجديدة؟ لا شك أن نتائج التحقيقات، وكيفية التعاطى مع ملفات الفساد الرسمى، هو ما سينبئنا. ولكن يجب أن ننبه أنفسنا (بنية خالصة للتعلم من الماضى وليس تشكيكا) إلى أن دولة مبارك قد بدأت بفعل مشابه، أى فتح ملفات فساد، وفضح العديد من رجال المال والسلطة وتقديمهم للقضاء، ولكن لم يستغرق ذك كثيرًا من وقت دولته، بل سريعا ما شقت طريقها إلى الفساد، ولم تكن الملفات التى تم فضحها إلا تصفية حسابات مع البعض، ومحاولة لإيهام الناس بأننا بصدد دولة إصلاحية نظيفة! لا نشكك فى نيات أحد، ولكن إذا كنا على أعتاب دولة جديدة شريفة، تسعى فعلا للقضاء على الفساد، فعليها بجانب فتح تلك الملفات ومحاكمة أصحابها، عليها تحليل أسبابه، وتفكيك قواعده وآلياته فى المجتمع ومراجعة الإجراءات والنظم التى تحميه! نعم أسست دولة مبارك وشرعت لممارسات الفساد، من خلال عدد من قوانين وقرارات الحماية والمحسوبية، والتى أصبحت عُرفًا وقاعدة فى العديد من المؤسسات. المحسوبية وعلاقات القرابة كآليات لتولى العديد من الوظائف والمناصب فى كثير من المؤسسات الحكومية والقضائية وغيرها، أطاحت بحقوق وطموح العديد من الشباب وأضاع مستقبلهم وأحبطهم فى بلدهم. قوانين وقرارات العديد من الوزارات منحت حقوقًا غير مشروعة لكثير من رجال الأعمال نتيجة للعمولات والرشاوى ومحاسيب السلطة، ما أدى لاستفحال الثروة لدى قلة مقابل فقر مستشرٍ فى أوصال أكثر من 60% من أبناء مصر. خلل ظالم فى توزيع ثروات البلد، أدى إلى ظاهرة الأسياد والعبيد. صار على أغلبية الشعب المصرى أن يعيش تحت خط الفقر، من موظفى وعمال الدولة فى الوزارات المختلفة، بجانب طابور البطالة الممتد. عمال، ومعلمون وأطباء، موظفو تقديم الخدمات وتخليص مصالح الناس، الأمناء والصولات المسؤولون مباشرة عن الأمن... وغيرهم كثيرون، كيف يمكن لهؤلاء العيش وتوفير حياة كريمة لأسرهم؟ كيف يمكن أن نطالبهم بتقديم خدماتهم بكفاءة؟ كيف يمكن أن تبرر الدولة أجورهم وظروف معيشتهم أمام انتشار الفساد وتكدس الثروات فى القمة؟ أصبح الحل العملى لدى الجميع هو مد اليد وتلقى الرشاوى، فى ظل تواطؤ عمدى من الدولة، فلا رقابة أو حساب، ولا إصلاح حقيقى لأوضاع الناس وتحقيق العدالة فى أجورهم. توافق الجميع على فتح أبواب خلفية لرفع دخل موظفى الدولة ومعدميها! لكن كيف أثر ذلك على توافر الخدمات وجودتها؟ مدارس حكومية تُخرج أُميون، مستشفيات عامة تُذِل الفقراء قبل موتهم! خدمات عقيمة فى كل مصالح الدولة، لا إنجاز يُذكر إلا الفساد. فتح الملفات ومحاكمة أصحابها ليس هو النهاية، بل بداية تفكيك دولة الفساد بكل آلياتها، وقوانينها وأعرافها. خطوة فى سبيل إعادة توزيع الثروة فى المجتمع وتحقيق العدالة. هذه هى الدولة التى نبغى، فهل هى فعلا القادمة؟ لن نقرر إلا إذا تشكلت معالمها بداية بتعديلات حقيقية فى القوانين والآليات، قوانين تُفعل وتطبق على الجميع، تقضى على الفساد وتؤسس للحق والمساواة، تقضى على الفقر وتحفظ كرامة الناس.