توفير 249 فرصة عمل بالقليوبية    المنطقة الأزهريّة بشمال سيناء تعلن أسماء أوائل الشهادة الابتدائية    وزير الري: الإجراءات الأحادية لإقامة السدود في دول منابع النيل تُهدد استقرار الإقليم    خلال المرحلة الثانية من الموجة 26.. إزالة 3 حالات تعدى بأرمنت| صور    رفع 7 طن قمامة خلال حملة نظافة بساحة سيدي أبو الحجاج بمدينة الأقصر    معهد التخطيط القومي يشارك في مؤتمر أوروبي حول تعزيز دور العلوم في صنع السياسات    رئيس بنك جيه بي مورجان يحذر: الاقتصاد الأمريكي قد يتدهور قريبا    إعلام فلسطيني: 75 شهيدا بنيران الاحتلال فى مناطق عدة بقطاع غزة 44 منهم من منتظرى المساعدات    إعلام عبري: 24 ساعة حاسمة تفصلنا عن حسم مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة    بعد إخراج كافة المستشفيات عن الخدمة.. صحة غزة: الوضع كارثي    بعد الهجوم الأوكراني بالمسيرات على أسطول القاذفات الروسي.. "سي إن إن": الولايات المتحدة معرضة لنفس الهجمات    ريال مدريد يعلن موعد تقديم صفقة ألكسندر أرنولد    ترامب يعلن التوصل لاتفاق مبدئى مع الصين    بايرن ميونخ يتصدر القيمة السوقية للمجموعة الثالثة بكأس العالم للأندية 2025    وزير الشباب يبحث مع مسئولي شركة ألمانية سُبل تسويق المعسكرات الرياضية في شرم الشيخ    مصدر بالزمالك : الاتفاق مع سانتوس على قيادة الفريق في الموسم الجديد    أمن القليوبية يضبط «عفاريت الأسفلت» بالطريق السريع بطوخ    إحالة المتهم بقتل والده أثناء الصلاة بالخليفة للجنايات    منى زكي.. «رزق الهبل» يجمعها بكاملة أبوذكري بعد 19 عامًا    أحمد عبد الحميد ينضم إلى أبطال مسلسل "ابن النادي"    إعلام إسرائيلى: إصابة جنديين برصاص قناصة فى خان يونس جنوبى قطاع غزة    رئيس الوزراء يترأس اجتماع اللجنة العليا لتنظيم افتتاح المتحف المصرى الكبير    خدمات نقل الدم.. ميكنة المراكز وزيادة كبيرة في عدد المتبرعين    رغم تحذيرات الصحة العالمية..حكومة الانقلاب تتجاهل متحور "نيمبوس" شديد العدوى سريع الانتشار    القصف لا يتوقف.. مجزرة جديدة للاحتلال قرب مركز للمساعدات في غزة    إصابة طالبة بطلق نارى بالبطن نتيجة عبث شقيقها بالسلاح الناري بدار السلام بسوهاج    الصحة: ميكنة 11 مركزًا لخدمات نقل الدم القومية وتعزيز البنية التحتية    مانشستر سيتي يعلن ضم الهولندي رايندرز لمدة 5 سنوات    تقرير: النصر يسعى لضم مدافع بايرن    «تدخل الأمن أنقذني».. أول تعليق من حسام البدري بعد الاعتداء عليه في ليبيا    كرة السلة.. الاتحاد السكندري يواجه بترو دي لواندا بنصف نهائي ال «BAL 5» الليلة    بعد صدوره رسميا، تعرف على عقوبة إصدار الفتوى الشرعية بالمخالفة للقانون    توقيع بروتوكول رباعي جديد لمبادرة «ازرع» لتحقيق الأمن الغذائي المصري    «كادوا أن يتسببوا في كارثة».. «عفاريت الأسفلت» في قبضة الشرطة    الحج السياحي 2025.. جهود الجميع نجحت في حل أي مشاكل طارئة بسرعة واحترافية    صباح تقتل عشيقها في الشارع بعد نشره صورها العارية: "خلّصت البشرية من شره"    بدء العد التنازلي ل«انتخابات النواب».. سباق مصيري نوفمبر المقبل    وزير الزراعة يشارك في مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات بفرنسا    الرئيس السيسي يتابع معدلات تنفيذ مشروعات المرحلة الأولى بمبادرة «حياة كريمة»    المصريون سحبوا 26.57 مليار جنيه من ماكينات ATM بالبنك الأهلي في 9 أيام    «المشروع X» يحتل صدارة الإيرادات ويتفوق على «ريستارت»    قصور الثقافة تعرض «بيت العز» بكفر الشيخ ضمن مشروع المسرح التوعوي    مش بس بالفلوس.. تعرف على أكثر 5 أبراج كرمًا فى كل شيء    الفنان محمد ثروت يدعو لشفاء آدم تامر حسني .. اللهم متّعه بالصحة والعافية    المفتي الأسبق يوضح مراحل طلب العلم    بني سويف تستقبل 12 زائرا ضمن فوج من السياح الألمان فى جولة على الممشى السياحى    كيا مصر تحذر المقبلين على الشراء من هذه السيارات.. التفاصيل    تقبل طلاب الثانوية علمي.. 10 معلومات عن كلية علوم التغذية 2025    اعتماد وحدة التدريب ب"تمريض الإسكندرية" من جمعية القلب الأمريكية- صور    دموع الحجاج فى وداع مكة بعد أداء المناسك ودعوات بالعودة.. صور    إصابة 7 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص أعلى كوبري قها بالقليوبية    عريس متلازمة داون.. نيابة الشرقية تطلب تحريات المباحث عن سن العروس    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 10 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    حالة الطقس اليوم في الكويت.. أجواء حارة ورطبة نسبيا خلال ساعات النهار    زيزو يكشف سر تسديده ركلة الترجيح الأولى للأهلي أمام باتشوكا    5 أطعمة تقوي قلبك وتحارب الكوليسترول    تعرف على آخر تطورات مبادرة عودة الكتاتيب تنفيذًا لتوجيهات الرئيس السيسي    دعاء الفجر.. أدعية تفتح أبواب الأمل والرزق فى وقت البركة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



21 يومًا فى أمريكا..«الحلقة الرابعة» محمد هشام عبيه
نشر في التحرير يوم 18 - 01 - 2014

الطابق الأول من «نيوزيم» يضم الصور الفائزة ب«بوليتزر».. وأول هليكوبتر تم استخدامها فى تغطية الأخبار!
الصحفى البارز بوب وودوورد ردّ على أغلب الأسئلة عن الشؤون الخارجية ب«لا أعرف».. لأنه لا يريد أن «يفتى فى ما لا يعلم»
زيارة سور برلين فى واشنطن.. وغداء فى قصر أنور وجدى
جزء من جدار برلين وقلم جورباتشوف الذى وقّع به قرار حل الاتحاد السوفييتى جنبًا إلى جنب فى «نيوزيم»
متحف الأخبار يضم جزءًا حقيقيًا من محرك إحدى الطائرات التى اصطدمت بمركز التجارة العالمى فى 11 سبتمبر
مر الوقت سريعا فى واشنطن الأنيقة، وبدأنا فى التجهيز للتحرك إلى مرحلتنا الثانية فى ولاية نورث كارولينا المجاورة، قبل السفر التقينا وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى فى لقاء بروتوكولى تطلَّب ارتداء البدلة والكرفات بكل تأكيد، وسيم كيرى عندما تراه عن قرب، لكن وقته المزدحم لم يسمح له بالجلوس مع نحو 100 صحفى من كل قارات العالم أكثر من 20 دقيقة، موزعا حديثه بالأساس عن إدوارد مورو الصحفى الأمريكى البارز الذى يحمل البرنامج التدريبى اسمه. مورو أسطورة حقيقية فى تاريخ الصحافة الأمريكية، كيف لا والرجل كان يقوم ببث أخبار الحرب العالمية الثانية من قلب لندن إلى الجمهور الأمريكى. هذا أمر يبدو افتراضيا فى عالم الصحافة اليوم، لكنه قبل أكثر من 75 عاما كان عملا بطوليا نادرا. الأهم فى ما فعله مورو ليس فقط جسارته واختراقه لأهوال الحرب، وإنما نزاهته واستقلاله. وربما هذا الذى جعل اسمه يعيش حتى اليوم فى الوجدان الأمريكى والعالمى.
لاحظ أن مورو هو أحد الذين هدموا وفضحوا مصطلح «المكارثية» الذى كاد يعصف بالمجتمع الأمريكى فى بداية الخمسينيات من القرن الماضى، نسبة إلى النائب الجمهورى بالكونجرس «جوزيف مكارثى»، الذى كان يوجه الاتهامات إلى خصومه باعتبارهم عملاء للشيوعية والاتحاد السوفييتى، مما فتح الباب للتخوين والتخوين المتبادل إلى أعلى المستويات فى الحكومة الفيدرالية. مورو عبر برنامجه الإذاعى الذى كان يتابعه الملايين وقف ضد هذه الهجمة المكارثية ببطولة وشجاعة لا تقل عما فعله فى الحرب العالمية الثانية، لو شاهدت الفيلم العظيم «good night and good luck»، ستستمتع أولا وستعرف المزيد عن بطولة «إدوارد مورو».. نعم هو نفسه جورج كلونى فى أحداث الفيلم.
على شرف كيرى دون حضوره تناولنا الغداء فى قاعة «فرانكلين» بالخارجية الأمريكية، وهى القاعة المخصصة لاستقبال السفراء والمسؤولين الدوليين، هى منسوبة كما هو واضح بالاسم إلى بنجامين فرانكلين، أحد أبرز مؤسسى الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه لم يصبح رئيسا لها قط، هو مشارك فى كتابة وثيقة الاستقلال، وكان باحثا ومخترعا مختلفا، وصاحب أفكار مبتكرة « من بينها فكرة أوراق اليانصيب مثلا».
القاعة فخيمة بشكل لافت، تليق فعلا ب«كبارات العالم»، هى أشبه بصالونات قصور الباشوات فى أفلام أنور وجدى، لو كنت ما زلت تراها حتى اليوم، هذا تشبيه مخل طبعا، لكن ذلك ما يمكن أن يسمح به خيال كاتب هذه السطور! الطعام على الطريقة الأمريكية التى سنعرفها كثيرا بعد ذلك، كان من قائمتين إحداهما نباتية، والأخرى لحوم، بعض زملاء فريقنا العربى انحازوا إلى القائمة النباتية بحثا عن «الأكل الحلال»، واللطيف أن أحدهم التهم قطعة كيك باستمتاع فائق عقب الغذاء، دون أن يدرى أنها مخلوطة بالويسكى!
توزيع الضيوف على الطاولات كان ذكيا ومقصودا، بحيث يتعرف معظم الصحفيين المئة بعضهم على بعض، إلى جانب عدد من المسؤولين فى الخارجية الأمريكية، نصيب كاتب هذه السطور، أن جاء إلى جوار فتاة أمريكية لطيفة فى منتصف العشرينيات من عمرها، صاحبة ابتسامة منطلقة دائما، وتتحدث العربية «المكسرة»، هذا قرّب المسافات بكل تأكيد، هى تفعل شيئا ما فى الخارجية، وتحاول تعلم العربية، لأنها تسعى لأن تعمل لاحقا فى الشرق الأوسط، عاشت فى مصر أحداث الأسبوع الأول من ثورة 25 يناير 2011، لأنها كانت تدرس فى الجامعة الأمريكية حينها، وأرتنى على هاتفها صورة لها فى ميدان التحرير، وتحدثت عن أن المصريين «كُمال»، سألتها بحسن نية عن الدول الأخرى التى زارتها فى المنطقة، فذكرت «الأردن»، و.. «إسرائيل»!
تجاوزت الاسم الأخير مضطرا، هذه فتاة تعمل فى الخارجية الأمريكية، فطبيعى أن تذهب إلى إسرائيل، مش معقول تقول لهم «أنا ضد التطبيع»، لكنها بررت «كنت أزور جدتى!»، «أهلا.. هى تيتة إسرائيلية؟!» تومئ برأسها فى سعادة ثم تواصل الشرح «بابا جاء هنا إلى أمريكا، وهى متمسكة بالبقاء هنا فى حيفا ونزورها كل فترة».. انقطع الكلام بيننا بعدها إلا قليلا. انهمكت فى الأكل -اللذيذ الفخم بالمناسبة- ثم استأذنتها فى الانصراف لالتقاط الصور التذكارية مع الأصدقاء من شرفة القاعة المطلة على واشنطن.
التقينا، أيضا وبالملابس الرسمية أيضا، الصحفى المخضرم الذى أطاح بالرئيس نيكسون من منصبه بعد تفجير فضيحة التنصت الشهيرة على الحزب الديمقراطى المنافس المعروفة باسم «ووتر جيت»، بوب وودورد ومن يكون غيره؟ أفردنا صفحة كاملة هنا فى «التحرير» قبل شهرين، للحديث عن نصائح وودورد للصحفيين من وقائع تجربته العميقة، لكن الملاحظ فى الأمر أن وودورد صحفى محلى بامتياز، فعندما توالت عليه الأسئلة من صحفيين قادمين من مصر وبنجلاديش وبوليفيا وأوغندا وغيرها من بلاد تركب الأفيال وتمرح فيها الجمال، تسأله عن تفاصيل خاصة بمجتمعاتهم الخاصة، وبعضها أحداث بارزة تغرى بالتعمق فيها «عزل مرسى مثلا بعد خروج ملايين ضده فى الشارع»، كانت إجابته شبه الدائمة أنه لا يملك معلومات كافية عن هذا الموضوع، هل يمكنك أن تعتبر ذلك انتقاصا من تجربة الرجل الصحفية؟ بالقطع، لا. هذا صحفى لا يتكلم إلا فى ما يعرفه فحسب. لا يفتى ولا يؤلف ولا ينصب نفسه محللا عميقا فى الشؤون الدولية ليتجنب الشعور بالإحراج أمام نحو 100 صحفى من كل دول العالم تقريبا. دعك من أن الرجل واثق فى نفسه قطعا -أجبر رئيس على الاستقالة.. عاوز أكتر من كده إيه عشان يبقى واثق فى نفسه؟!- ثم أنه نموذج للصحافة الأمريكية الناجحة المقروءة المؤثرة.. الصحافة الخاصة بشؤون أهل البلد فحسب.
الهدية الكبرى فى هذا اليوم كانت بالذهاب إلى «newsuem»، «متحف الأخبار»، وهى فكرة أمريكية شديدة اللمعان والابتكار والمتعة، متحف مختص فقط بالأخبار والصحف ووسائل الإعلام، هذا ما قد تظنه من الاسم، لكنه ليس كذلك فحسب، الفكرة أكثر عمقا.
المتحف تأسس عام 1997، ويقع فى شارع بنسلفانيا شمال غرب واشنطن، يتكون من ستة طوابق، إضافة إلى الطابق الأرضى، الطابق الأخير توجد به الصفحات الأولى لنحو 200 صحيفة يومية تصدر من جميع دول العالم، هذا هو الأشهر عن المتحف، ولضيق الوقت المتاح (ساعتان كاملتان) لم نستطع زيارة هذا الطابق المهم، ندمنا قطعا، لكن الندم الأكبر كان سيطولنا لو لم نقم بزيارة باقى الطوابق المبهرة.
خذ عندك مثلا، الطابق الأول يضم كل الصور الفائزة بجائزة بوليترز -التى تعد «نوبل الصحافة»- منذ ستينيات القرن الماضى، يا الله، ما كل هذه المتعة والرعب!
هذه صورة ذلك الطفل السودانى الهزيل الذى أصبح «لحم على عضم» كما يقول المثل بالضبط، وفى الخلفية، ذلك النسر الأسود المرعب ينتظر سقوط الطفل ميتا من الجوع ليلتهمه. الصورة التقطها المصور الأمريكى كيفين كارتير، عام 1994، وانتحر بسببها بعد عام واحد فقط، لأنه دخل فى ذلك الصراع المروع «هل كان يمكن أن أضحى بروعة الصورة فى سبيل إنقاذ الطفل من الموت؟»، وذلك رغم أن هذه الصورة تحديدا هى التى حركت العالم لينقذ أطفال السودان من هذا الموت الرهيب. وهذه صورة هيكل عظمى بشرى ملقى بإهمال إلى جوار إحدى خطوط السكك الحديدية، أى صورة أبلغ من ذلك عن بشاعة الحرب التى وقعت فى السلفادور عام 1985؟ وها هو يلتسن الرئيس الروسى الموتور يرقص بجنون مع اثنتين من الراقصات على أحد المسارح، فى صورة تكشف بوضوح ما آلت إليه روسيا على يد هذا الرجل.
أما هذه الصورة المروعة التى التقطها مصور ال«أسوشيتدبرس» إدوارد آدامز عام 1969، وفيها يقوم الجنرال الفيتنامى نجيين لوان بإطلاق الرصاص على رأس زعيم الفيتكونج «الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام» من مسافة لا تزيد على 10 سنتيميترات، فقد هزت الدنيا هزا، لدرجة منعت الجنرال لوان من تلقى العلاج فى المستشفيات الأمريكية لاحقا بسبب الرفض الشعبى له بوصفه سفاحا يقتل بدم بارد أمام الكاميرات، رغم أن الزعيم الذى قتله بيده، كان قد نفذ بيده هو الآخر مذبحة طالت العشرات من المدنيين، مما دفع المصور إلى أن يقدم له اعتذارا قائلا «الجنرال قتل زعيم الفيتكونج بمسدسه مرة وأنا قتلت الجنرال بكاميرتى عدة مرات»، ثم هناك صور 11 سبتمبر طبعا، وعديد من الكوارث التى طالت الولايات المتحدة على مر السنين، هذا طابق يخلد الصورة ويقدم لأصحابها المغامرين التحية.
بعد ذلك إلى أين نذهب؟ الطابق السلفى.. ماذا يوجد به؟ لا أبدا.. قطعة من جدار برلين! قطعة حقيقية فعلا تم نقلها من الحدود الفاصلة بين الألمانيتين فى هذا الزمن البعيد عندما بدأت حجارته فى التساقط عام 1989، معلنة نهاية حقبة تاريخية بأكملها. أقف مأخوذا أمام الجدار الممتلئ بعبارات ألمانية يبدو أنها كانت تدعو إلى هدمه منذ فى بداية بنائه عام 1961، فى الخلفية يوجد فيلم تسجيلى يحكى لك قصة الجدار منذ البداية وحتى الانهيار، أنت لن تأتى هنا للفرجة والتصوير فحسب، لا بد أن تخرج بمعلومة. فى نهاية الممر، يوجد حجر صغير من الجدار، واللوحة التى تعلوه مكتوب عليها «ألمس قطعة من التاريخ»، فهمت طبعا أن الجدار الكبير ممنوع لمسه، أضع يدى على الحجر الصغير الذى شتت شمل ألمانيا وأوروبا وشعبها لنحو ثلاثين عاما، وكان سلاحا رئيسيا للاتحاد السوفييتى فى حربه الباردة مع أمريكا،.. كم بشرى سحقه هذا الجدار يا ترى!
إلى جوار سور برلين ستجد ذكرى أخرى وثيقة الصلة، القلم الذى وقَّع به جورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتى، وثيقة حل الجمهوريات التى يتكون منها الاتحاد السوفييتى بالأساس عام 1991، هذا قلم أسود بسيط، لكنه تاريخى قطعا، ولا يعرف كيف أن هذا التوقيع، غير مستقبل العالم لسنوات طويلة، أما التعليق فوقه فكان موجزا وعميقا «the End Of soviet era»، «نهاية العصر السوفييتى». هل فهمت إذن الغرض من احتفاظ أمريكا بهذا القلم الأسطورى؟
ماذا يخبئ لنا «النيوزيم» أيضا؟
فى جناح آخر مخصص لأحداث 11 سبتمبر، يوجد جزء من محرك إحدى الطائرات التى ارتطمت ببرجى التجارة العالمى فى هذا اليوم الصعب على العالم كله قبل نحو 13 سنة، جزء حقيقى بالفعل من المحرك لا نموذج، ستجده جنبا إلى جنب، بقايا هواتف محمولة، وحقائب سيدات، وجدت فى ركام المبنى بعد انهياره، وخطاب دينى كتبه أحد الانتحاريين الذين قاموا بالعملية باللغة العربية، وإلى جواره صور عدد من المشتبه فى أنهم قاموا بتنفيذ العملية.. وكلهم عرب قطعا.
هناك جناح خاص فى المتحف للرئيس الأمريكى، جون كنيدى، صاحب الشعبية التى لا تزال تعيش حتى يومنا هذا بين الشعب الأمريكى، تجده فى هذا الجناح الفخيم الذى يرصد بالصور، قصة صعوده، وجماهيريته، وعلاقته بأسرته، وصولا إلى اغتياله المفاجئ، وهناك كذلك جناح خاص بأشهر العمليات وأغرب الجرائم التى حقق فيها FBI «المباحث الفيدرالية»، وهو جناح مشوق لكل محبى أفلام الأكشن، خصوصا أنه يضم أحرازا حقيقية فى عديد من الجرائم، من مسدسات وأدوات للقتل، ووصل بهم الخيال فيه إلى حد تصميم نماذج للمنازل التى ألقى القبض فيها على عدد من أشهر المغتصبين للسيدات فى التاريخ الأمريكى الحديث!
فى الطريق إلى المطعم الملحق بالمتحف ومنه إلى محل بيع التذكارات مررنا بأول سيارة تم استخدامها فى البث عبر الأقمار الصناعية عام 1984، ولست بحاجة إلى القول من جديد بأن هذه هى السيارة نفسها لا نموذج مقلد لها! ولمحنا معلقا فى أعلى الطابق الأول من المتحف، طائرة هليكوبتر، هى الأولى التى استخدمتها إحدى المحطات الإخبارية الأمريكية لتغطية الأحداث ذات يوم!
خرجنا فى حالة انتشاء واضحة من المتحف، هذا مكان يتعامل مع الصحافة باعتبارها متعة لا مهنة، ولا يكتفى بالحديث النظرى عن ذلك، وإنما يدخلك إلى هذا العالم الثرى مباشرة، حتى إنه فى أحد الطوابق يمكنك أن تقف أمام إحدى الكاميرات لتتحدث بوصفك مراسلا لتليفزيون «نيوزيم» من أمام البيت الأبيض أو الكونجرس الذى تظهر صورته فى الخلفية، قبل أن يظهر صوتك وصورتك بعد نحو دقيقة على الشاشات الموجودة فى المكان، واسمك أسفلها أيضا! دعك من أن المتحف كان مزدحما طوال الوقت برحلات المدارس والزائرين العاديين، الكل هنا يعيش الصحافة لا يشاهدها فحسب، لهذا يعرفونها ويحترمون حريتها فى ما بعد.
قبيل إعداد الحقائب كان علينا أن نودع واشنطن بجولة ليلية فى أحد أشهر شوارعها «جورج تاون»، الذى يحمل اسم جامعتها الأشهر والأعرق، نصحنا بذلك توفيق، مترجمنا المدهش خفيف الروح واللغة، ذو الجذور التونسية، الذى يعمل بجانب الترجمة أستاذا بجامعة جورج تاون «عادى يعنى!»، توفيق حاول تقريب الشارع لنا بقوله إنه يشبه شوارع حى الزمالك فى القاهرة التى زارها أكثر من مرة، وهو تشبيه صحيح إلى حد ما، لكن شارع جورج تاون أكثر اتساعا، ويخلو من رجال المرور والركينة الذين يساعدونك فى إيقاف شارع 26 يوليو لنصف ساعة كاملة «عشان تركن كويس يا أستاذ»!
الشارع الطويل صخب، وعلى جانبيه توجد المحلات التى تبيع منتجات راقية بأسعار توجع قلوب العرب الزائرين أمثالنا، لكن الفرجة ببلاش قطعا، مررنا على أحد محلات «أبل»، والزحام فيها يقارب الزحام المصرى على محلات الفول والطعمية، وتسكعنا فى الشارع لفترة طويلة، قبل أن يستقر بنا الحال فى أحد المطاعم التى تقدم البيتزا مع موسيقى لطيفة وضحكات كبيرة من الأمريكيين السهيرة، لنكتشف ها هنا حقيقة جديدة عن أمريكا، وهى أنه لا يوجد مطبخ أمريكى، أنت هنا فى «دولة العالم»، ستجد مطاعم من كل أنحاء الدنيا، فلماذا يرهق الأمريكيون أنفسهم فى اختراع طعام خاص بهم، وفى أيديهم أن يأكلوا كل يوم طعاما من بلدة ما؟
البيتزا كانت لذيذة، لكن النصيحة لأى عربى زائر لواشنطن هى أن يجرب «موبى ديك»، المطعم الإيرانى الوحيد فى المدينة، لأنه يقدم طعاما شهيا بنكهة كنا بدأنا فى افتقادها، وبسعر جيد أيضا، وفى العموم أغلب هذه المطاعم تغلق قبل منتصف الليل، واشنطن مدينة عمل لا مدينة للسهر، باستثناء أيام «الويك إند»، وفى كل الأحوال كان يجب علينا النوم، لنبدأ فى الصباح رحلتنا إلى مدينة «تشابل هيل» فى ولاية «نورث كارولينا» المجاورة، ولم نكن نعرف أن متعة أخرى تنتظرنا هناك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.