العمليات الإرهابية التى انتقلت الآن إلى المدن المصرية شىء مؤسف جدًّا، وهؤلاء الذين يفقدون أرواحهم عشوائيًّا، سواء من العاملين مع قوات الأمن أو المواطنين، يتركون خلفهم أسرًا مكلومة، وجيرانًا مكلومين، ومجتمعًا يدرك أنه على قوائم الضحايا المحتملين. هذا أسوأ مرض يمكن أن يعانى منه مجتمع. العدو الداخلى.. هل هناك أسوأ من ذلك؟ لكن -فى نفس الوقت- العمليات الإرهابية هى الميكروب الذى ينشِّط مقاومة الجسم، والذى يمهِّد للتعافى من المرض، لو استقام الغرض.. وما من تنظيم إرهابي، من القاعدة وما دونه، فعل ذلك إلا خسر.. ولكن. لقد ضيعت مصر أكثر من فرصة لمواجهة هذا المرض العضال، مواجهة حقيقية، وليست مجرد «كشط». أولاها فى الخمسينيات، حين انقلب الشعب على الإخوان، لكن السلطة لم تدرك اللحظة، بل اعتبرت أنها بالقضاء على الإخوان قد تخلصت من المعارضة الأقوى، وأن الفرصة سانحة لكى تقضى على ما تبقى، فمدت أيديها كالأخطبوط تضرب هنا وهناك، تضرب فى القضاء، وتضرب الصحافة، وتضرب الأحزاب، وتضرب الاستثمار، فأعطت، دون أن تقصد، وقودًا لدعاية الإخوان بأن هذه سلطة غاشمة. ليس هذا فحسب، بل إن السلطة نفسها استخدمت دعاية مشابهة لدعاية الإخوان فى جوهرها، وإن كانت علمانية فى مظهرها، وأقصد بذلك دعاوى العداء الدينى لمن نواجهه سياسيًّا.. من الأزهر فى 1956، إلى «هم نفس اليهود» فى أغانى عبد الحليم حافظ وغيره، أى أنها «كشطت الإخوان»، بينما بقيت طريقة التفكير كما هى. يزكيها «الدين الرسمى»، والدين الوسطى السياسى السمسار. فلما انهزمت السلطة فى 1967 كان المجتمع جاهزًا لارتداء الثوب الظاهرى الذى خلعه قبل سنوات. وكان الإسلامجية أداة المرحوم أنور السادات فى مواجهة معارضته. ثم جاءت اللحظة الثانية، اغتيال السادات فى 1981، والمنطقى، المنطقى البسيط، أن يكون هذا درسًا قاسيا نتعلمه جميعًا، لكن العجب كل العجب أننا لم نتعلمه. غشاوة الرغبة فى المكسب السريع كست أعيننا مرة أخرى، رأينا المعارضة التى استُخدم الإرهابيون ضدها قبل سنوات يغنون للإرهاب، يغنون لخالد الإسلامبولى. ورأينا -مرة أخرى- الإسلام السياسى الوسطى السمسار يلعب على كل الأحبال. وعلى الجانب الآخر، رأينا النظام نفسه مرتعش الأيادى أمام الإسلامجية، فأغمض عينه عن إعادة تشكيلهم صفوفهم عام 1984، وعن سيطرتهم على الجامعات بعد ذلك. ثم، عودة إلى المعارضة، رأينا «المبدئين» يخلطون بين الحقوق والحريات السلمية للمواطنين السلميين، وبين الحقوق والحريات ل «المحاربين» المتخفين فى ثياب مدنية، وكأن البشر أغبياء لدرجة أن يمنحوا أناسًا الحرية لهدم الحرية، الحرية للتحريض على قمع الحرية، الحرية فى التحريض على المواطنين المختلفين دينيًّا، وإحراق دور عبادتهم وبيوتهم، الحرية فى التحريض على القتل. ثم، عودة إلى النظام، رأيناه يلعب بالإسلامجية لعبة «خيال المآتة»، والمقصود أن يحتفظ بهم على درجة معينة بين القوة والضعف، تجعلهم مبررًا لقمع كل المعارضة، وفى نفس الوقت أضعف من أن يتولوا السلطة. ثم، عودة إلى المعارضة، فقد ظنت أنها تستطيع أن تستخدم الإسلامجية عصا ضد النظام، فادعت أنهم «مجرد فزاعة»، إنما هم فى الحقيقة أمامير خالص وكويسين وكيوت. تكرار «ثُمّ» هنا ليس عبثًا. إنما مقصود تمامًا لكى أُشعرك بالتكرار، بالملل والزهق من الحلقة المفرغة التى ندور فيها. والقصد، لا نعيش فقط فى دائرة العنف بسبب العنف والعنف المضاد. هذه مقولة سطحية. إنما نعيش فى دائرة من العنف بسبب الانتهازية والانتهازية المضادة. انتهازية السلطة وانتهازية المعارضة. كلاهما يستأجر الإسلامجية، ويستأجر أو يتسامح مع بنية الإرهاب الفكرية، لهزيمة الآخر. والكاسب الوحيد هو الإرهاب. لولا مساحة المقال لضربت لك أمثلة «دولية» أيضًا تسير على نفس النهج، لكننى أتركها لك لتتفكر فيها. الانتهازية وغشاوة الرؤية داء يمهد لمرض، هذه هى الحلقة المفرغة الحقيقية، فدعون-مرة واحدة على سبيل التغيير- نعزل الإرهاب عن خلافاتنا السياسية. نعزله. فلا السلطة تنتهزه لقمع المعارضة السلمية. ولا المعارضة تستخدمه ل «تكسير» السلطة تحت شعار «المبادئ الحقوقية». وإلا سندفع جميعًا الثمن. ولن يربح إلا الإرهابيون. أما «الكشط» فسهل جدًّا.. وسيحدث قريبًا، مهما كان الثمن. لأن الحمقى نقلوا الإرهاب إلى المجتمع. فلا يلومون إلا أنفسهم.