أُصيب والدى، رحمه الله، فى عامه الأخير بمرض السرطان وصاحبه فى ذات الوقت مرض الزهايمر، وقد تولّت أمى وأختى الكبرى كل شؤون أبى من تفاصيل شخصية وخاصة لا يستحب ذكرها أو تذكّرها، وبالتأكيد لن يحب القارئ أيضًا الاقتراب منها أو الاطلاع عليها، وتعمّدت أمى وأختى فى ذلك الوقت إخفاء أى تفاصيل أليمة عنى، لمعرفتهم بضعفى وهشاشتى أمام تلك الأمور، مما دفعهم إلى تجنيبى معرفة خبايا هذا الحمل الثقيل. ومرّت على تلك الذكرى أكثر من عشر سنوات حتى فاجأتنى فى الأسبوع الماضى المخرجة هالة لطفى بفيلمها الأول «الخروج للنهار»، والذى عُرض ضمن برنامج بانوراما الفيلم الأوروبى. إذ بهالة تدفع أمامى على شاشة العرض بكل الوقائع الموجعة التى جنبتنى إياها أمى وأختى. فمن خلال قصة فيلمها التى تدور حول أب يصارع المرض فى أيامه الأخيرة والتى يعجز فيها عن القيام بأبسط المهام اليومية مثل إطعام نفسه أو حتى قضاء حاجته، تستغرق هالة عن عمد فى سرد تفاصيل قاسية ينتجها المرض والعجز. وتتوقف بالكاميرا طويلًا أمام الأم والابنة، وهما يضمدان للأب تقرحات الفراش. وطويلًا أمام لحظة تبديل الابنه لوالدها بالحفاضة أخرى نظيفة فى الصباح، وغير ذلك من التفاصيل الموجعة. ورغم ما عانيته من ألم نفسى فى أثناء مشاهدتى الفيلم، فإننى كنت أشعر فى ذات الوقت بالامتنان للمخرجة. إذ أعادت إلىّ تلك التجربة التى تجنبتها منذ أعوام وما كان ينبغى علىّ ذلك. فحاصرتنى فى مقعدى بغرفة العرض المظلمة، حيث تمر التجربة بكامل قسوتها أمامى على شاشة العرض الكبيرة، ولا مفر من المواجهة. ورغم الألم والقسوة، لكن ما أجمل السينما. تلك السينما التى تستطيع أن تمنحك الفرصة، كى تعوض ما فاتك من تجارب، أو تعيد إحياء تجاربك القديمة، أو تخوض بك فى تجارب تجهلها، تفرح وتشقى تضحك وترتعد تبكى وتتألم، لكنك حتى وأنت تتألم فإنك تدرك فى كل لحظة أنها تجربة ستعيشها فقط فى زمن الفيلم ودون أن تتورّط فيها. تدرك أنك بعد قليل سوف تخرج للنهار مرة أخرى. ولذلك تظل السينما بالنسبة إلينا دومًا أجمل من الواقع. شكرًا للمخرجة هالة لطفى على فيلمها الأول والجميل وعلى تصديها لمغامرة إنتاجه هى وفريق عمل الفيلم الرائع، المحب للسينما، الذى استطاع بموهبته وإخلاصه أن يصنع بميزانية صغيرة فيلمًا كبيرًا يمثّل علامة مهمة فى تاريخ السينما المصرية.