أعتبر نفسى مواطنا من «حزب الكنبة الديمقراطى»، وهم المواطنون غير الضالعين فى أنشطة سياسية لكن «بيفهموا شوية فى السياسة»، وعايزين دولة ديمقراطية تحترم حريات الناس، وعندهم قدر من «المعرفة» يخليهم يكوِّنوا رأيهم المستقل. يمكن تسمية هؤلاء «طائفة المعرفيين»، ودى طائفة منتشرة فى مختلف المهن والأسر.. ستات ورجالة وشابات وشباب وأطفال همّ كده من صغرهم بيحبوا يقروا ويعرفوا ويسافروا ويشوفوا، وعندهم آراء، بس الآراء دى مش محور حياتهم. ودى ميزة، لأنهم بانشغالهم بمختلف أوجه الحياة بيكونوا آراء أكثر شمولا، وبتنوع تجاربهم بين مختلف المهن والأوساط الاجتماعية بتكون مصادر تغذيتهم المعلوماتية أوسع. انفتاح المجال السياسى بعد 25 يناير، وانتشار وسائل الاتصال الاجتماعى والنشر الفردى، أتاحا للناس دى تعبر عن آرائها، وتلاقى بعض، من نوعية الأسئلة ونوعية الاهتمامات، وتتعارف. وأكتر من كده إن اللى خزنوه من معارف بدأ يصب فى صالح تكوين رأى عام لا يستهان به، فى وسط شريحة متعلمة من المجتمع. ارتكاز آرائهم على «المعرفة» لا يضمن «صوابها»، لكن يمنحها «وجاهة». ولما تكون مطعَّمة بالخبرة الشخصية فى مجالات تشبه مجالات عمل معظم الناس فده بيديها تنوع، وجاذبية، عند قطاعات على نفس القدر من التنوع، «بيلاقوا فيها نفسهم». إنما طبعا الطائفة دى مش محترفة خناقات على طريقة الوسط السياسى والثقافى المصرى. مابتعرفش الشللية والتجمع «الكلبى» لمطاردة من لا ينتمى إلى القطيع. الإسلامجية يصنفون بالكفر ومشتقاته، وصولا إلى العبودية لشىء. واليساريون اللى أحزابهم مشكلة للحكومة الحالية، يصفون مخالفيهم ب«التماهى مع السلطة». والجوهر واحد. هؤلاء الناس تتوقف أذهانهم عند نقطة معينة من الماضى، القريب أو البعيد، وتجمد الصورة. وتعتبر أن من كانوا فى السلطة يوما هم «السلطة» بالألف واللام. تعجز أ ذهانهم عن رؤية الوضع الحالى. التغيرات السياسية بعد 25 يناير لم تلفت نظرهم ولم تنبههم إلى «واقع جديد». وهنا أعود إلى ما بدأت به. إلى طائفة المعرفيين. إلى «حزب الكنبة الديمقراطى». منهج تفكير هؤلاء يعتمد، بسبب طبيعة اختياراتهم المهنية وعلاقاتهم الاجتماعية، على جمع المعلومات بأنفسهم، بدلا من استقبال المعلومات الشائعة فى وسط معين. يدخل فى هذا المعلومات التى تذيعها القنوات الخاصة والعامة، كما المعلومات التى يذيعها السياسيون والنشطاء، كما معلومات الزملاء اللى مش مسيسين. وهنا، من ينتمون إلى قطاع السياحة منهم يؤثر على آرائهم حجم النفع أو الأذى الذى يظنون أنه سيصيب القطاع. وهكذا العاملون فى مجال الإنشاءات العمرانية، وسائقو التاكسى، وموظفو الشركات الاستثمارية، والعاملون فى القطاع السينمائى، وموظفو الحكومة. كل تلك مهن لا تقل أهمية عن مهنة النشاط الحقوقى، أو النشاط السياسى، أو الصحافة. وبها مشتغلون أعدادهم تفوق هؤلاء. ووفر لهم «الفيسبوك» وسيلة تواصل سحبت البساط من تحت أقدام الصحافة التقليدية. ونافست الإعلام التقليدى. باستثناء موظفى الحكومة، فإن الأحزاب السياسية اليسارية لا تشغل نفسها بباقى القطاعات، أما النشطاء فلا يشغلون أنفسهم بأحد. المعرفيون من مختلف القطاعات يرون آراءهم مهملة إلى جانب آراء أحزاب لا قواعد جماهيرية لها بينهم، ومحترفو سياسة لا يشغلون أنفسهم ب«حيث إن» بل يقفزون إلى «قررنا»، ثم لا تقدم اختياراتهم السياسية أدلة على فهم عميق للسياسة، كما لا يقدم سلوكهم أدلة على انفتاح و«ديمقراطية». لا يستحقون «الثقة العمياء». محترفو سياسة حياتهم قوالب سابقة التجهيز، ورغم ذلك يتحدثون عن التغيير، يقصدون التغيير من قالب الآخرين إلى قالبهم، وليس التغيير بمعنى التفاعل والمنافسة. يَدعون إلى التعاون مع «الفصيل الوطنى» ويجرمون التعاون مع «الفصيل الوطنى» الآخر. هو كده. الأفكار السابقة كانت فى ذهنى على الدوام، لكننى لم أستطع بلورتها إلا حين قرأت بوست نشره الصديق محمود جمال على «فيسبوك»، وهو مقال لجورج طرابيشى عن المفكر محمد الجابرى. وفيه استخدم طرابيشى عبارة «الانتقال من الأيديولوجى إلى الإبستمولوجى»، وللتبسيط، «الانتقال من العقائدى إلى المعرفى». الانتقال من «هو كده» إلى «مقارنة كده بكده» وكده ليه، ومش كده ليه، ولو كده نتوقع إيه، ولو كده نتوقع إيه. هذه عبارة لخصت بالنسبة لى ما يميز «طائفة المعرفيين». شكرا لمحمود جمال، ولجورج طرابيشى، ول«فيسبوك». طيب فين المشكلة؟! اللى فات ده هو المشكلة بالنسبة لليسار السلطوى الأحمق. غدا إجازة، وبعد غد أعرض وجهة نظرى.