لماذا لا يقف تلاميذ سيد قطب عندما يُعزَف النشيد الوطنى الذى لحنه سيد درويش؟ كان مشهدا مهيبا فى أول أيام هذا الشهر، وفى تمام الساعة العاشرة مساء، عندما عُزِفَ النشيد الوطنى ووقف أعضاء لجنة الخمسين احترامًا وفخرًا بما أنجزوه فى كتابة مشروع دستور 2013، ولفت الأنظار د.حسام المساح ممثل ذوى الاحتياجات الخاصة باللجنة وهو يبكى واقفا متحديا إعاقته وفخورا بمشاركته فى هذا الحدث الجلل، وقيل -والله أعلم- أن السيد محمد منصور مندوب حزب النور السلفى خرج من القاعة قبيل هذه اللحظات التاريخية، فهل كان هذا بسبب نشيد «بلادى بلادى»؟ هل هو موقف من الموسيقى عموما أم من الشعور بالانتماء للوطن ورمزية السلام الجمهورى؟ أنحملُ جميعا نفس المشاعر تجاه هذا الوطن؟ وهل كلمة «وطن» تُمَثل لنا نفس المعنى؟ ثم.. يعنى إيه كلمة «وطن» أصلا؟ أحاول فى السطور القادمة أن أتناول مفهوم «الوطن» من خلال مدرستين مختلفتين تماما، وأترك لك عزيزى القارئ تحديد أى المدرستين أقرب إلى قلبك وضميرك. المدرسة الأولى هى مدرسة الانتماء لمصر الوطن، ويمثلها فى هذه المقاربة الأعمال الفنية لملحن نشيدنا الوطنى الفنان سيد درويش «1892-1923م» الموسيقار النابغة وصانع نهضة الموسيقى فى العصر الحديث بلا منازع، الذى حول أغانينا من مدرسة اللحن الطربى إلى مدرسة اللحن المُترجِم لمعانى الكلمات. كان من حسن حظه وحظنا أنه عاصر حقبة تاريخية ثورية ووطنية غير مسبوقة وستندهش عندما تكتشف بعضا ممن عاصرهم فنان الشعب سيد درويش، فهو من جيل محرر المرأة قاسم أمين «1863-1908» والرائدة النسوية هدى شعراوى «1879-1947»، والأديب العملاق طه حسين «1889-1973» والأديب الكبير عباس العقاد «1889-1964»، وبالطبع الزعيم سعد زغلول «1858-1927» قائد ثورة 1919، وأخيرا وليس آخرا «فالقائمة طويلة وعجيبة» الزعيم والمناضل مصطفى كامل «1874-1908» الذى أفنى عمره القصير فى الدفاع عن مصر وحريتها وذاب عشقا فيها حتى إنه قال فى إحدى خطبه عام 1907: «بلادى بلادى لك حبى وفؤادى.. لك حياتى ووجودى، لك دمى، لك عقلى ولسانى، لك لُبى وجنانى، فأنت أنت الحياة.. ولا حياة إلا بك يا مصر». كان هذا هو تعريف هذا الجيل الثائر للوطن وتلك الكلمات تحديدا تأثر بها الشاعر محمد يونس القاضى شيخ المؤلفين المصريين «1888- 1969»، فألهمته كلمات النشيد الوطنى الحالى الذى لحنه درويش من مقام العجم قبيل وفاته ضمن أناشيد وأغان وطنية عدة تقطُرُ عشقا ووطنية وانتماءً فتسمع منه أيضا هذه الأبيات الرائعة للرائع بيرم التونسى «1893-1961م» بلحن مميز للشيخ سيد من مقام العجم أيضا ضمن أوبريت «شهرزاد» أو «شهوزاد» الذى عُرِضَ لأول مرة عام 1921: «أنا المصرى كريم العنصرين.. بنيت المجد بين الأهرمين جدودى أنشؤوا العلم العجيب.. ومجرى النيل فى الوادى الخصيب لهم فى الدنيا آلاف السنين.. ويفنى الكون وهما موجودين». وفى هذا الإطار قدم درويش ترجمة لمفهوم الوطن ضمن أغانيه الممزوجة مزجا بالشخصية المصرية وخصائصها الاجتماعية البسيطة وعلى سبيل المثال: «قوم يا مصرى، عشان ما نعلا ونعلا، الحلوة دى، شد الحزام، ماقلتلكش أن الكترة، القلل القناوى»، وكلها من كلمات المبدع اسمًا وعملًا بديع خيرى «1893-1963» الذى كتب أيضا أغنية «سالمة يا سلامة» ولحنها درويش من مقام البياتى ونغنيها إلى الآن: «سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة صفّر يا وابور واربط عندك نزلنى فى البلد دى.. بلا أميركا بلا أوروبا ما فى شىء أحسن من بلدى دى المركب اللى بتجيب أحسن من اللى بتودى.. يا اسطى بشندى.. سالمة يا سلامة». ومسك الختام لمفهوم الوطن عند هذه المدرسة وهذا الجيل ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقى «1868-1932»: وطنى لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتنى إليه فى الخلد نفسى أما المدرسة الثانية فهى مدرسة الانتماء للدين والدين فقط، ويتزعمها المفكر سيد قطب «1906-1966» من خلال كتبه ومقالاته وأفكاره التى تحمل رؤية مختلفة تماما لمسألة الوطنية، حيث يُعتَبَر سيد قطب المنظر والمفكر الأبرز والأكثر تأثيرا فى هذا الشأن. وقد عاش قطب حياة فريدة من نوعها، فقد بدأ شاعرا فكاتبا للأطفال ثم ناقدا أدبيا فمفكرا إسلاميا فقائدا سياسيا وعضوا فى مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين، وصولا إلى إعدامه شنقا فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وقد تكون هذه النهاية المأساوية، بالإضافة إلى موهبته الأدبية والبلاغية وأفكاره الحادة من أهم أسباب شهرته ومكانته الرفيعة عند محبيه الذين يلقبونه ب«الإمام الشهيد»، حيث شكلت أفكاره ما يسمى بالاتجاه القطبى داخل الجماعة، وهو الاتجاه الأكثر تشددا، الذى سيطر على مكتب الإرشاد تماما فى الفترة الأخيرة. إنتاج قطب الأدبى فى الشعر والصحافة والنقد كان ملفتا ومميزا، ثم انعطف إلى مجال الفكر الإسلامى وكتب كتبا هامة منها: «مشاهد القيامة فى القرآن، أساليب العرض الفنى فى القرآن»، ولكن تبقى أهم كتبه التى أثرت على مسار حركة الإسلام السياسى من بعده: «المستقبل لهذا الدين»، و«فى ظلال القرآن»، وبالطبع «معالم على الطريق». وتبنى سيد قطب فكرة واضحة وصريحة، وهى أن الدين والشريعة الإسلامية يجب لهما أن يحكما هذه الأرض، ويجب على جميع المسلمين أن يجعلوا الدين يحكم حياتهم فى كل تفاصيلها الدقيقة، فيقول فى كتاب المستقبل لهذا الدين: لا معنى للدين أصلا، إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة. انتهى الاقتباس. وعلى هذا فأى حاكم لا يلتزم بالتطبيق التام للشريعة الإسلامية هو حاكم كافر وأى مجتمع يقبل الاحتكام لهذه القوانين الوضعية هو مجتمع جاهلى نسبة إلى عصور الجاهلية قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. جدير بالذكر أن الشيخ يوسف القرضاوى خالفه هذا الطرح، واعتبره خروجا على ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولكن أفكار قطب وجدت استجابة واسعة عبر السنين ونتج عنها جماعات تتبنى هذا الفكر مثل السلفية الجهادية وغيرها من الجماعات المسلحة التى حولت الصراع الفكرى إلى صراع دموى استنادا إلى ما قاله قطب نفسه: «إن كلماتنا وأفكارنا ستظل عرائس من شمع حتى إذا متنا فى سبيلها دبت فيها الحياة». أما عن الوطن والوطنية من وجهة نظر قطب، فنجده لا يعترف بهذه المسميات أبدا ويروى عنه فى هذا الصدد مقولة لا أعلم مدى صحتها وهى: «وما الوطن إلا حفنة عفنة من التراب». فقد اعتبر قطب أن الانتماء للوطن يخالف الانتماء للدين وكأنهما يتعارضان، وغاب عنه أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بكى لفراق وطنه «مكة»، وهى فى ذلك الوقت ديار كفر، ولم يخرج منها طواعية وإنما أُخرِج منها مكرها وظل عاشقا لها متلهفا عليها حتى رجع إليها بعد سنوات فى عام الفتح. ورغم ذلك فلا يوجد مكان لوطنية المكان فى أدبيات قطب، ولا معنى عنده لرمزيات مثل العلم والنشيد الوطنى، فهو يعتبرها بقايا للعصر الجاهلى بعصبياته ونعراته القبلية التى لا يعرفها الإسلام، ويُعَبر قطب عن هذه الفكرة فى هذه الفقرة من كتاب فى ظلال القرآن: «إن راية المسلم التى يحامى عنها هى عقيدته، ووطنه الذى يجاهد من أجله هو البلد الذى تقام شريعة الله فيه، وأرضه التى يدفع عنها هى دار الإسلام، التى تتخذ المنهج الإسلامى منهجا للحياة، وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامى تنضح به الجاهليات ولا يعرفه الإسلام». انتهى الاقتباس. ليس مستغربا إذن أن يقف أنصار المدرسة الأولى احتراما للنشيد الوطنى، بينما يستنكف أنصار المدرسة الثانية الاعتراف بهذه المسميات الجاهلية طبقا لوجهة نظرهم، والحقيقة أن المشكلة الحقيقية ليست فى النشيد أو حتى العَلَم إنما هى فى الإحساس بالوطنية ذاتها، الشعور بالحب والإخلاص والولاء لهذا المربع الجغرافى البالغ مساحته مليون كيلومتر مربع، الذى يقول عنه جمال حمدان «أحد أبرز علماء الجغرافيا فى القرن العشرين» فى كتابه البديع «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان»: «فالواقع أن مصر لم تسبق العالم كدولة سياسية فقط، وإنما هى أطول دولة حافظت على وحدتها القومية عبر التاريخ، فبدون أن نبالغ فنزعم أن هذه المحافظة كانت كاملة تماما أو سهلة هينة على الإطلاق. لم يحدث خلال 6000 سنة أن انفرط عقد وحدتها وتدهورت إلى انفصاليات إقليمية إلا فى حالات نادرة وشاذة للغاية، لا تمثل فى مجموعها إلا فصلا قصيرا، ولا نقول بعض جمل اعتراضية فى كتاب الوحدة المصرية». انتهى الاقتباس. «أرجو أن تقرأ الفقرة السابقة مرة أخرى». تحسس موقع قدميك واختَر لنفسك يا صديقى تعريفًا لهذا الوطن.. الذى أتعبنا وأتعبناه فلم يفارقنا وإن فارقناه، واسمع معى ما كتبه د.مدحت العدل عام 1993 فى أغنية «يعنى إيه كلمة وطن»، التى لحنها أحمد الحجار من مقام الحجاز وغناها محمد فؤاد، لعلك تكتشف بنفسك إجابة السؤال: «يعنى إيه كلمة وطن؟ يعنى أرض حدود مكان؟ ولّا حالة من الشجن؟ ولّا إيه؟ ولّا إيه؟ شاى بالحليب على قهوة فى الضاهر هناك.. نسمة عصارى السيدة ودير الملاك.. يعنى إيه كلمة وطن؟ نشع الرطوبة فى الجدار.. ولّا شمس مفرقة برد النهار.. ولّا أمك ولّا أختك ولّا عساكر دفعتك والرمل نار.. يعنى إيه كلمة وطن؟».