كان علينا أن نتأكد من خلوّ البيت من الضيوف وأن نغلق الباب علينا ونتأكد من عدم مرور أحد تحت شباكنا، يعنى «الدار أمان»، قبل أن نلتفّ حول جهاز التسجيل لنسمع ذلك الصوت الجميل، ومع ذلك محمّل بكل هذا القدر من الغضب والاحتجاج، «يا غلبان بلدنا يا فلاح يا صانع/ يا شحم السواقى يا فحم المصانع/ يا منتج يا مبهج يا آخر حلاوة/ يا هادى يا راضى يا عاقل يا آية/ ماتتعبش نفسك بشغل السياسة/ وشوف انت شغلك بهمّة وحماسة/ وعوِّد عيالك فضيلة الرضا/ لأن احنا طبعا عبيد القضا» كان هذا فى سنة 1970، كانت صناعة أغنية يعيش «أهل بلدى»، التى أقضّت مضجع عبد الناصر، وكشفت تهافت وطبقية نظام تحالف قوى الشعب العامل، مجازفة كبيرة أودت بصناعها الشاعر أحمد فؤاد نجم، والمغنى الشيخ إمام عيسى إلى المعتقل، وسمعنا بعدها بصوت ثرى ملىء بالشجن والثورة قصيدة «كلب الست» التى تنتقد الأوضاع الظالمة فى بلدنا. كانت أرواحنا وقلوبنا ظامئة لهذا النوع من الفن، فقد كنا مهزومين هزيمة فادحة من إسرائيل، وأرواحنا مجروحة، وكان الفن الرسمى فى الإذاعة والتليفزيون قد فقد مصداقيته فى التعبير عن آلام وأشواق الجماهير، وراح يخدرنا بأغنيات مبتذلة، «الطشت قاللى يا حلوة ياللى قومى استحمى»، «العتبة جزاز والسلم نايلو ف نايلو»، «ما آخدش العجوز أنا/ أزقّه يقع فى القنا» وغيرها، ومات عبد الناصر، ودخلنا الجامعة وكان السادات قد سمح ببعض الحرية للطلاب سعيا لليبرالية جديدة، وتأكيدا لاختلافه عن سلفه الكبير، ورحنا نستقبل فى الجامعة ذلك الثلاثى الثائر نجم وإمام ومحمد على. كان نجم اسما على مسمّى فعلا، يلفت الانتباه ويخطف الأبصار ببساطته وسلاسته البالغة، وانحيازه الواضح والصريح إلى الوطن وفقرائه، وعرفت أقدامنا الطريق إلى الغرفة المتواضعة التى تضم ذلك الثلاثى المثير فى «حوش قدم» فى قلب القاهرة الفاطمية، بالقرب من جامع المؤيد شيخ. غرفة شديدة الفقر لا تضم سوى سرير سفرى للشيخ إمام وكنبتين بلدى لنوم نجم ومحمد على ليلا، وجلوس الضيوف والزوار نهارا، وخلا ذلك ليس سوى موقد فحم وطفايات سجاير وبعض القلل الفخار وعود الشيخ إمام. وعلى الرغم من الفقر الفاقع فى هذه الغرفة فإنها قد أصبحت محط آمال وأشواق المصريين وتوقهم للعدل والحرية، خصوصا وقد راح السادات بعد أن استتبّ له الأمر يدير ظهره للفقراء عبر سياسة الانفتاح الاقتصادى ويدير ظهره للقضية الوطنية عبر اتفاقية السلام مع العدو الإسرائيلى، ومن هنا راح نجم يستنهض الهمم الوطنية للطلاب وينشد لهم: «رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجَدّ تانى/ يا مصر إنتى اللى باقية وانتى قطف الأمانى»، وعندما يجتمع فى زنازين النظام، مع رموز الوطن يهتف: «اتجمعوا العشاق فى سجن القلعة اتجمعوا العشاق فى باب الخلق/ والشمس غنوة م ِالزنازن طالعة ومصر غنوة مفرّعة فى الحلق/ اتجمعوا العشاق فى الزنزانة مهما يطول السجن مهما القهر/ مهما يزيد الفجر بالسجانة مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر». ويستلهم نجم سيرة المناضل الأسطورة ويقدمها لشبابنا الثائر: «جيفارا مات.. مات الجدع فوق مدفعه جوَّه الغابات/ جسّد نضاله بمدفعه ومِن سُكَات»، ويدعو للتحرير: «الأرض بَراح وإن داسها الذل تضيق بالناس والخضرة تزول، ويعربد فيها البُوم أجناس». وراح نجم المبدع يستخرج كنوز السخرية الشعبية، فى مواجهته لدعاية النظام وارتمائه فى أحضان الغرب: «فاليرى جيسكار داستان والست بتاعته كمان حيجيبوا الديب من ديله ويشبّعوا كل جعان» وحول زيارة نيكسون لمصر، نغنّى له: «خدعوك فقالوا تعالى تاكل بمبون وهريسة، قمت انت لأنك مهيف صدقت إن احنا فريسة، طَبّيت لِحقوك بالزفة يا عريس الغفلة يا خفة، هات وشك خدلك تفة، وآدى نقطة صاحب البيت». ولم يتوقف تأثير نجم على الداخل المصرى بل ذاع صيته فى العالم العربى وطبقت شهرته آفاق العالم، وكان العديد من أصدقائنا العرب يكادون يقبّلون أيدينا لمجرد معرفتهم أننا نعرف نجم شخصيا ونلقاه وقد نتناول معه الشاى والطعام، ورددت مسارح العالم الكبرى صوت نجم شاديًا بأشعاره بما تحمل من حس اجتماعى وإنسانى، وأصبح ذلك الفتى الفقير النحيل الذى قضى ردحًا من حياته فى ملجأ للأيتام، وقضى ردحًا أكبر على أسفلت زنازين الطغاة، نجما شهيرا وسفيرا للنوايا الحسنة، ورغم كل ذلك فقد كان نجم يشعر بالغربة فى فنادق العالم الكبرى وبين نجومه وساسته، ويعد الساعات ليستقر فى شقته المتواضعة فى مساكن الزلزال بين أولاد البلد الحرفيين والصنايعية والباعة، الفقراء الذين وهب لهم روحه وحياته. وداعًا يا أبو النجوم وستظل رائعتك: «مصر يا امّه يا بهية يا أم طرحة وجلابية الزمن شاب وانتى شابّة هو رايح وانتى جاية» تراثا خالدا نورّثه لأبنائنا جيلا بعد جيل كالنيل والهرم.