قانون التظاهر غبى سياسيا، لماذا؟ لأنه يعزز أجواء عدم الثقة التى بدأت منذ منع إذاعة برنامج «البرنامج»، واستمرت فى كواليس القنوات الإعلامية، هذا سبب. اعتراضك على ما حدث من نشطاء سياسيين لا ينبغى أن ينسحب ليصير اعتراضا على حقنا وحقهم فى «الشك المبرر» فى نيات السلطة، قياسا على ما يصدر منها من أفعال فى مجال معين. السبب الثانى لأنه أيضا أخطأ الهدف السياسى. الهدف السياسى الأهم لقانون التظاهر، فى الوقت الحالى، هو تصنيف المظاهرات إلى قانونى وغير قانونى، تمهيدا للتعامل معها بناء على هذا التصنيف. بصورة أوضح، عزل مظاهرات الإخوان بصفتها مظاهرات صادرة عن جهة محظورة قانونا، أو بصفتها مظاهرات لم تحصل على التفويض القانونى اللازم، والتعامل معها على هذا الأساس. أما القيود نفسها فيجب أن تكون شكلية، وأن يكون النقاش المجتمعى حولها مقنعا، بحيث تبدو الحكومة فيه مرنة إلى آخر حد ممكن، ومطمئنة إلى آخر حد ممكن، وعداها العيب. هذا لو كانت الأمور فى عالم السياسة تقرأ كالمعادلات الرياضية. وبما أنها ليست كذلك، فإن هناك احتمالا آخر لقراءة ما حدث، تركيبه الدرامى أقرب إلى جو السياسة. ما يحدث حاليا جزء من صراع قوى تحصل فيه الأحزاب ذات الأيديولوجيات اليسارية على مكاسب اقتصادية «من وجهة نظرها»، مثل إقرار الحد الأدنى والأقصى للأجور، ومثل فرض الضرائب التصاعدية فى الدستور. على أساس أن هذه «المكاسب» ستكون ورقتهم الترويجية فى الانتخابات. فى مقابل منح الشق الأمنى من الحكومة ما يريد، مثل قانون التظاهر، وتمرير بند محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، على أساس أن هذا لن يخلو من ميزة لأحزاب الحكومة أيضا، أن ينفى عنها صفة الأيادى المرتعشة. لكن من المتضرر من هذا الوضع؟ أدعى -من وجهة نظر اقتصادية- أن أول المتضررين المواطنون المصريون غير المرتبطين بالجهاز الحكومى. وهذا يشمل فئتين، أولا أصحاب المهن الحرة الصغيرة، والعاطلون عن العمل، والفقراء الذين يعملون بالأجر اليومى، فئة ضخمة جدا. الفئة الثانية هم أصحاب الأعمال الأكبر، وذوو الأجور المرتفعة والمرتفعة نسبيا فى القطاع الخاص، سيتضررون بالضرائب /أو سيتضررون من التضخم المتوقع بسبب زيادة الأعباء على ميزانية الحكومة. ثانى المتضررين حزب الدستور بوصفه منسحبا فى شخص زعيمه د.محمد البرادعى، من الحكومة، وتائقا إلى لحظة «مش قلت لكم» الشهيرة، وخوفا من نفاد الحمُّص. وطبعا الحركات الشبابية غير الحزبية، والإسلامجية من الإخوان وحزب مصر القوية، أى تشكيلة يناير الأصلية. انظرى إلى القائمة مرة أخرى. ستعرفين أن حكومتنا تراهن فقط على تجميع أصوات كسالى المجتمع، الموظفين الحكوميين، نفس منطق دولة يوليو، وهل لليسار من «يكاتبه» سوى هؤلاء؟! وليس هذا ذما فى «الموظفين الحكوميين» بل ذم فى القيادة التى تكرس عيوب العامل وترسخها، بدل أن تحفزه لمزيد من الجهد. وستجدين فى القائمة -يا للعجب- توافقا نادرا بين فئات متباينة من المجتمع. كيف؟ لو سقطت الحكومة، ستبتهج القوى الثورية علنا، وستبتهج القوى الدولاتية سرا. لقد كانت هذه القوى التقليدية تراهن على استقالة الحكومة اعتراضا على قانون التظاهر، أو تتفكك. هذا الرهان لم ينجح، ولم يبق إلا أن تراهن على إسقاط الحكومة، لتلحق بغيرها من «المحاولات الثورية» السابقة. بمعنى آخر، سيكون هذا نصرا لحظيا لقوى «يناير» فى شقها الثورى. أما النصر الأكبر فسيجنيه الإخوان الذين سيصدرون هذا للعالم على أنه دليل على «فشل الانقلاب». ولو وصلنا إلى الانتخابات ستجنى النصر القوى التقليدية. أتوقع خسارة أخرى خاصة بحزب الدستور، الحزب الذى يضم، ضمن من يضم، ليبراليين مؤيدين للثورة من «حملة وعى الطبقة الوسطى»، وهى فئة ليست قليلة ولكن تائهة، ومعهم جمهورهم من «حزب الكنبة الديمقراطى». سيكون أمام هؤلاء خياران، أولهما الانعزال عن الحزب، وثانيهما الاقتراب من أقرانهم الآخرين من حملة وعى الطبقة الوسطى، أعنى بهؤلاء الدولاتيين الليبراليين، وجمهورهم «حزب الكنبة الاستقرارى»، وأصحاب الأعمال، وقطاع السياحة، والفئات الأفقر المتكسبة من الاستقرار والاستثمار كسائق التاكسى والحرفيين وعمال اليومية. سيحدث هذا بمنطق «الطرد المركزى» الفيزيائى السياسى. أيها الليبراليون: لا بد أن نصنع مستقبلنا ولا نستسلم للعك والحنجورية السياسية. لقد منحناهم بدل الفرصة ألفا، وسرنا خلفهم بدل المرة ألفا، وبلعنا اعتراضاتنا وتنازلنا عن آرائنا بدل المرة ألفا. وهذا يكفى.