أنا مالي؟ أنا شاب بيخلّص دكتوراه في جامعة أجنبية ومهتم بالفلسفة والثقافة ومصر وناسها والوضع الحالي، ليه ماقعدش برة مصر وأنا ساكت؟ أنا مالي ومال مصر؟ الحقيقة إن السؤال ده على بال الشباب فى الجامعات والمعارض والقهاوي، اللي كثير منهم سابوا مصر أو بيفكروا يسيبوها، واللي ناوي يقعد في مصر قاعد ساكت وبيتفرج وهو عمّال يقول لنفسه: أنا مالي؟ الإحساس ده طبيعي، وعشان نقارن إحساسنا الحالي بتجارب مثقفين وفلاسفة ثانيين، ممكن نرجع لكتاب "تدبير المتوحد" للفيلسوف الأندلسي أبو بكر ابن باجة. كتاب ابن باجة بيبدأ بالتفكير عن معنى التدبير. الناس بتتكلم عن الله سبحانه وتعالى بصفته ال"مدبر"، إنما ده مجرد تشبيه بأفعال إنسانية حسب ابن باجة، لأن التدبير هو طريقة الواحد في التفكير والتخطيط والاختيار لمسار حياته وحياة بيته وحياة "المدينة". تعريف ابن باجة للمدينة مبني على كتابات أفلاطون وأرسطو والفارابي، اللي وصفوا المدينة الفاضلة كنظام سياسي بيخللي أهل المدينة يوصلوا للسعادة ( يعني إيه سعادة ؟). ابن باجة ماكانش مهتم يعرف إزاي نوصف المدينة الفاضلة دي، إنما كان مهتم يشرح إزاي الواحد العاقل يعرف يعيش في مدينة أو نظام سياسي مافيهوش بني آدم عاقل. الواحد ده، أو "المتوحد" في تعبيره، عامل زي الزرع الشيطاني في وسط الجنينة: بينما الجنينة ماشية في اتجاه واحد بتفكير واحد، المتوحد له اتجاه وتفكير مختلف، ولازم يحافظ عالتفكير ده عشان مايكلوش الزرع اللي حوليه. ده الحل الوحيد اللي قدمه ابن باجة في كتابه: المتوحد لازم يحافظ على اهتماماته الفكرية ويحاول يلاقي ناس ثانية بنفس الاهتمامات ويتجنب مجتمعه الفاسد عشان يسعد نفسه ويريّح دماغه. إذن بينما الفارابي كان مهتما بالنظام السياسي المثالي وسعادة الجميع، ابن باجة مهتم يسأل إزاي الواحد يتعايش مع وضع مش مثالي ويلاقي سعادته الشخصية فيه. الدكتور معن زيادة شرح إن السؤال ده مرتبط بظروف ابن باجة، بما إنه عاصر ترهل الإمارات الإسلامية في الأندلس في القرن الحداشر، واضطر يهرب من سرقسطة عشان الإفرنج استولوا عليها، وبعدين مشي من الأندلس أصلا لما المرابطين استولوا عالحكم. مش كفاية إن حظه التاريخي نحس، إنما أعداؤه كانوا كثيرا من صفوف الفقهاء والعلماء، اللي كانوا شايفين إن الفلسفة خطر على الإيمان وإن ابن باجة لازم يعقل، وانتهى الأمر إنه مات مسموم. في الظروف دي، طبيعي إن الفيلسوف يحس إنه لازم يحافظ على ثقافته وفلسفته في مجتمع مش سايبه في حاله. إنما الحل اللي قدمه ابن باجة مش واقعي، لأنه بيتعامل مع المتوحد بشكل مثالي، وكأن المتوحد مجرد إنسان محتاج ينعزل ويفكر في حاله ويصبر وإن شاء الله الدنيا هتبقى تمام. في ظروفنا الحالية، الاختيار ده مش مطروح للمثقفين والمفكرين اللي بيجروا على أكل عيشهم أو محتاجين تأشيرات عشان يسافروا أو بيتبهدلوا كل يوم في الأقسام والمحاكم. في الآخر ابن باجة كان عايش قاضي محترم معزز مكرّم، والحكام في زمنه كانوا بيستعينوا بنصيحته وبيقدّروه حتى إذا مقدّروش كتاباته، وده مش ممكن نقارنه بوضع مثقفين ومفكرين كثير في مصر حاليا. سعادة، إذن، المتوحد حسب ابن باجة عنده رد واضح على سؤال "أنا مالي"، وهو: أنا ماليش فيه. بس مش معنى كدة إنه لازم ييأس. إذا الظروف ساعدته، لازم يحاول يأسس لمدينة أفضل في كتاباته وقراياته وتفكيره، حتى إذا عمره ماهيعيش في المدينة الفاضلة.