لم يكن الخطاب الأخير للرئيس عبد الفتاح السيسى بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف مجرد خطاب يستغل مناسبة دينية لتجديد الحديث المكرر حول قضية تجديد الخطاب الدينى، فرغم أن هذه النقطة شغلت جانبا رئيسيا من الخطاب فى جزئه الأول، ورغم أنه لم يقدم جديدا فيما قاله حول تلك النقطة التى يثبت فى كل مرة أنه لا تستطيع المؤسسات الدينية التقليدية النهوض بها فى ظل كل ما أصابها على مدار العقود الماضية، وفى ظل إستمرار تبعيتها للسلطة، فإن الجانب الأهم فى الخطاب كان محاولات إظهار ثبات السلطة واستقرارها، ونجاحها فى تجاوز المرحلة الأولى من خطوات ما تسميه بالإصلاح الهيكلى للاقتصاد المصرى، وهو نفس الشعار المستخدم منذ عهد مبارك، لكننا هذه المرة بالفعل أمام تحول كبير فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية، يسميه السيسى وسلطته بالأكثر جرأة وشجاعة ويلوم من قبله لأنهم لم يتخذوه، ولكنه فى الحقيقة يبدو الأكثر كارثية من حيث آثاره، ليس فقط على مستوى اللحظة الراهنة، بل على مستوى السنوات المقبلة ومصير الاقتصاد المصرى فيها، وطبيعة الأوضاع الاجتماعية لشعبها، الذى يصفه السيسى بالشعب العظيم، وهو كذلك، لكن ليس للأسباب التى ذكرها الرئيس فى خطابه من أنه يتحمل آثار القرارات الاقتصادية الأخيرة، لأنه فى الحقيقة يئن ويشكو منها ليلا ونهارا، حتى وإن لم يتحرك ضدها، وهى النقطة التى يرى من خلالها السيسى أن الشعب يتقبل هذه القرارات باعتبارها كانت ضرورية ولازمة بل ومتأخرة، ويقسم على أنه لم يكن لديه خيارات أخرى بديلة عنها. (1) دعنا من مقولات (إن الله معنا) و(اللى يقدر على ربنا يقدر علينا) التى ذكرها الرئيس فى خطابه، والتى تبدو أقرب للغة الخطاب المغلف دينيا التى لا تختلف كثيرا عن لغة خطاب الإخوان والسلفيين وغيرهم، ممن كانوا يعتبرون آراءهم وسياساتهم هى التعبير عن صحيح الدين وإرادة الله فى الأرض، وهو يبدو أنه منهج لا يختلف عنه منهج تفكير السلطة الحالية، وينعكس بشكل واضح على خطابها، للدرجة التى تجعل الرئيس فى كثير من المواقف، وآخرها فى تفسيره لأسباب اضطراره لاتخاذ القرارات الاقتصادية الأخيرة على صعوبتها وخطورة آثارها على الأوضاع المعيشية لغالبية المصريين، بأنها جاءت ليتحمل المسئولية أمام ربه لأنه كان يعلم أنه لو قرر تأجيلها لغيره فإنها قد تعرض البلاد للضياع! الرجل هنا يتحدث عن مسئوليته أمام ربه فى الآخرة، لا مسئوليته كرئيس للجمهورية فى الدنيا يحاسب أمام شعبه، ويقدم من خلال ذلك تفسيرا لأسباب اتخاذ ما تسميه سلطته وحكومته دائما بالقرارات الصعبة! لكن بعيدا عن ذلك، فإن الأهم هو أن الرئيس يقسم بأنه لم تكن لديه خيارات أخرى، ونحن نصدق تماما أنه يرى ويؤمن بذلك، لكننا لا نصدق أبدا أن هذا البلد بالفعل لم تكن لديه خيارات أخرى، لأنه فى الحقيقة كان ولا يزال أمامه الكثير من الحلول البديلة، التى تطرح يوميا على ألسنة وأقلام خبراء ومتخصصين فى مختلف المجالات، وأمام رؤى سياسية منحازة اقتصاديا واجتماعيا بشكل مغاير لما تتبناه السلطة، وهنا جوهر الخلاف، أنه ربما لا يكون هناك خيارات بديلة لإصلاح مشكلات ومواجهة أزمات الاقتصاد المصرى سوى ما قررته السلطة لكن وفقا لانحيازاتها الاقتصادية والاجتماعية، التى تسير على نفس طريق سابقيها، بل وتزداد سوءا عنهم باختيار نخب اقتصادية ورأسمالية جديدة تصنعها بنفسها لتضمن ولاءها والسيطرة عليها، ولا تسمح بتعدد مراكز القوى والنفوذ والتأثير التى تريد احتكارها كلها لنفسها، فى السياسة والاقتصاد والإعلام والمجتمع وغيرها. لا يعنى هذا بالتأكيد انتصارا لبعض المقولات التى تطالب بفتح الباب أمام إعادة نموذج تحالف السلطة والثروة مع النخب السابقة المنتمية لعهد مبارك من رجال الأعمال ورأسمالية الفساد، لكن ما نشير له هنا هو أننا أمام إعادة إنتاج لنفس النموذج بأسماء وأشكال أخرى، وكثير منهم ينتمى بالأساس لذات الجهات والمؤسسات التى تضمن هذه السلطة ولاءها، أو بالأدق تعبر بالأساس عنها وعن تصوراتها ومصالحها. (2) (لا) أولى يجب أن تسمعها هذه السلطة، وهى أن تلك السياسات الحالية لم تكن الخيار الوحيد، بل وحتى فى إطارها فلم تكن تلك السبل الوحيدة لضمان تخفيف آثارها، التى فى الحقيقة لم تقتصر إطلاقا على الطبقات الأقل دخلا كما يحلو لهم أن يروجوا، بل امتدت للجميع دون استثناء مع تفاوت الدرجات، وأثرت بشكل بالغ على الطبقة المتوسطة بدرجة رئيسية، وبالتالى فكل الحديث عن إجراءات الحماية الاجتماعية، والتى بحكم طبيعتها لا تمتد بالأساس لا للطبقة الوسطى بافتراض أنها بالأساس تشمل وتطول كل من هم أقل منها، يبدو حديثا فارغا من مضمونه حتى وإن كانت بعض الجوانب فيه مقدرة على المستوى الاجتماعى والإنسانى، لكنها بالتأكيد ليست العلاج المناسب والمطلوب والاحتياط الأوجب والأضمن لتخفيف الآثار الحقيقية للقرارات الاقتصادية المؤلمة التى تم الشروع فيها، والتى لا زلنا ننتظر المزيد منها والمزيد من آثارها. قضية غلاء الأسعار التى يعترف ويقر بها السيسى، والتى لم تتوقف لحظة على مدار السنوات السابقة وتفاقمت أكثر مع توليه الحكم وبلغت ذروتها بعد قراراته الاقتصادية الأخيرة، ليست مجرد أثر عارض لخيارات اضطرارية بل هى نتيجة مباشرة لتراجع دور الدولة ومؤسساتها وأجهزتها عن القدرة على ضبط الأسعار، التى بالتأكيد ليس سبيل مواجهتها إقحام القوات المسلحة فى مهمة توفير السلع الغذائية، كما أن تصور أنها فترة مؤقتة لبضعة شهور يجدى معها توفير أرصدة من السلع الأساسية لتلك الشهور يبدو تصورا شديد النظرية، وبعيدًا كل البعد عن الواقع وعما جرى فى الشهور القليلة الماضية، ثم إن التعامل مع تلك الأزمة وما يصاحبها من ارتفاع معدلات التضخم التى زادت إلى أكثر من 20% فى الشهر الماضى وحده وبزيادة أكثر من 5% عن الشهر السابق عليه مباشرة، وتراجع القدرة الشرائية لغالبية المصريين، وغيرها، باجتماعات متتالية تعيد تكرار نفس الكلام والوعود عن تدخلات الحكومة وأجهزة الدولة التى لا تسفر عن شىء، كل ذلك وغيره من أزمات امتدت لقطاعات رئيسية مثل الدواء والسكر وغيرها، تشير بوضوح لأننا لم نكن أمام أى حد أدنى من الاستعداد الحقيقى والدراسة الجادة لآثار تلك القرارات على المجتمع. (3) (لا) ثانية ينبغى أن تستمع لها السلطة، هى أن ما أصاب الاقتصاد المصرى وأوضاعه واختلالاته لم تكن وليدة السنوات الست الماضية، التى يؤرخ لها الرئيس بدءا من 25 يناير، ثم يضيف لها ما قبلها من سنوات طويلة باعتبارها عنصرا إضافيا لا الأصل فيما وصلنا إليه، والاستمرار فى تحميل الثورة وما بعدها من سنوات آثار ما جرى فى البلاد من تدهور وانحدار اقتصادى هو تحايل على الحقائق وتزييف للوعى، ومحاولة للانتصار لفكرة ألا يثور أو يتحرك الناس مجددا خشية تفاقم الآثار، ورغم أن هذا قد يبدو صحيحا نظريا أو محل اتفاق ولو مرحليا فى ظل الأوضاع الراهنة، ليس اقتصاديا فحسب بل سياسى ومجتمعى، لكنه لا يعنى على الإطلاق الاتفاق مع صحة أن خروج الملايين من المصريين فى يناير ضد سياسات الاستبداد والفساد والإفقار والغلاء والتوريث والترويج لسياسات نيو ليبرالية يجرى تطبيقها بالفعل الآن بأسوأ نماذجها وصورها، كان هو السبب فيما وصلنا إليه. الحقيقة أن ما جرى وما وصلنا إليه وليد سياسات اقتصادية فاشلة منذ عقود، لم تبدأ فى عهد السيسى، لكنها أيضا استمرت فى عهده بل وتفاقمت، وأن ما جرى فى يناير لم يكن سببا فى هذه الأوضاع بل كان محاولة للتصدى لها وتغييرها، لكن من حكمونا قبل وبعد يناير، لم يستجيبوا للحظة لهذه الرغبة الواضحة للمصريين فى بناء نظام جديد سياسيا واقتصاديا أكثر عدالة، وفى ترسيخ جذور العدالة الاجتماعية التى تختلف تماما بكل تأكيد عن (الحماية الاجتماعية) التى يروجون لها حاليا. (4) (لا) ثالثة وقاطعة ينبغى أن تدركها السلطة لا أن تسمعها فحسب، وهى أن الشعب المصرى ليس راضيا عن الأوضاع الحالية، وليس متقبلا للقرارات الاقتصادية الأخيرة وآثارها، وأن عدم تظاهره أو تحركه فى مواجهتها لا يعنى رضا وقبولا، بقدر ما يعنى إنهاكا وإرهاقا وإحباطا وغضبا، فضلا عن تشوش فى رؤية المستقبل فى ظل الفراغ والعجز السياسى القائم والذى نجحت هذه السلطة فى تعميقه وترسيخه على مدار الشهور والأعوام الماضية. لم يتحرك المصريون فى مواجهة تلك القرارات وإعلانا لرفضهم لها ولآثارها عليهم، وتأكيدا لحقيقة أن مجمل الأوضاع الراهنة ليست محل قبول، لم يكن بسبب قبولها أو تحملها أو ما إلى ذلك من أسباب تبدو مدعاة لتوظيف السلطة لها للادعاء باستقرار الأوضاع وثبات أركانها وسيطرتها على الأمور، وإنما لحزمة متداخلة من العوامل، بما فيها ما يتعلق بعدم الاستعداد للانجرار وراء دعوات مماثلة لما شهدناه فى 11 نوفمبر السابق، والتى يبدو أن فشلها الذى كان متوقعا كان جزءا من دوافع الرئيس للحديث بكل تلك الثقة عن تقبل الشعب المصرى فى خطابه الأخير.. لكن المؤكد، الذى ينبغى أن يصل إلى إدراك وفهم هذه السلطة، هو أن الأحوال الراهنة لا يمكن أن تكون محل قبول أو رضا المصريين، فضلا عن عدم تصديق أنهم هم بثورتهم فى يناير كانوا المسئولين عما وصل إليه الحال، أو أن سياسات العامين الماضيين لم تكن جزءا أصيلا من الوصول إلى هذا المربع الذى نقف فيه الآن. نعم الشعب المصرى شعب عظيم، كان وسيبقى كذلك، تحمل ولا يزال الكثير فوق طاقته، لكن اللحظة التى ستنتهى فيها حدود طاقته وصبره وقدرته على الاحتمال تبدو أقرب مما يتوقع كثيرون، أيا كانت الطريقة التى سيعبر بها عن ذلك، لأنه للصبر حدودا، ولأن رصيد هؤلاء الذين وعدوه بأنه سيجد من يحنو عليه وبأن عليه الصبر والاحتمال لعامين قبل أن يرى مصر قد الدنيا، قد أوشك رصيدهم على النفاد، إن لم يكن قد نفد بالفعل.