الزيارة المهمة لوزيرَى الدفاع والخارجية الروسيين للقاهرة، اليوم، ليست فقط بداية مرحلة جديدة فى العلاقات بين البلدين، ولكنها -قبل كل شىء- إعلان صريح بأن القرار المصرى قد خرج للأبد من بيت الطاعة الأمريكى الذى حبس فيه منذ أعلن السادات قبل أربعين عامًا أن 99٪ من الأوراق الخاصة بمصير المنطقة.. فى يد أمريكا!! بعد ثورة يناير كان منتظرًا أن تسير مصر فى طريق استعادة قرارها المستقل، لكن ما حدث كان غير ذلك، القيادة العسكرية كانت -بشكل أو بآخر- امتدادًا لعصر مضى، وكانت تطمح لإصلاح النظام الأسبق لا الثورة عليه، و«الإخوان» قفزوا إلى صدارة المشهد بدعم أمريكى ومساندة من توابع أمريكا فى المنطقة من ناحية، وعصابات وأنظمة تتاجر بالدين على حساب الإسلام والمسلمين، وانتهى الأمر بكارثة تسليم السلطة للإخوان، وتسليم الإخوان باستمرار التبعية وضياع الاستقلال والتفريط فى أرض الوطن مقابل السلطة وأوهام أستاذية العالم وقهر المسلمين والهيمنة على مصير مصر والعالم العربى.. ولو لحساب الآخرين!! مع 30 يونيو وسقوط حكم الإخوان.. استعادت الثورة مسارها الصحيح، ولم يعد هناك شك -بعد التجربة المريرة- أنه لا يمكن أن تحقق الثورة أيًّا من أهدافها فى الحرية والعدل والكرامة دون شرط أساسى هو: تأكيد الاستقلال الوطنى، وإنهاء زمن التبعية الذى أفقد مصر دورها، وقادها فى طريق الدمار، وجعل رضا الراعى الأمريكى هو الطريق لحكم مصر.. أيًّا كان الحاكم ومهما أساء لمصر وشعبها!! من هذا المنطلق كان موقف واشنطن وحلفائها من ثورة يونيو، وكان استمرار الدعم للإخوان حتى بعد السقوط الذليل باعتبارهم ورقة يمكن الضغط بها على النظام الجديد، ومع صمود مصر ووحدة شعبها وانحياز جيشها إلى إرادة الشعب، والدعم العربى من أشقاء أدركوا حجم المؤامرة على مصر وعليهم.. مع ذلك كله تصاعدت ضغوط واشنطن لتصل إلى احتجاز المعونة، ووقف صادرات السلاح فى وقت يخوض فيه جيش مصر حربًا ضارية ضد الإرهاب المدعوم من أطراف تعرفها واشنطن جيدًا! لكن.. حتى لو كان موقف واشنطن إيجابيًّا من ثورة 30 يونيو، لما كان ذلك قد منع مصر من السير فى طريق تأكيد استقلالها الوطنى، بما يعنيه من تحقيق التوازن فى علاقاتها الدولية، وانفتاحها على دول العالم وتوثيق علاقاتها بأمتها العربية أولًا، ثم بمحيطها الإفريقى، ثم بالدول المؤثّرة سياسيًّا واقتصاديًّا.. من الصين والهند، إلى البرازيل وأوروبا، وقبل ذلك روسيا القوة الثانية فى عالم اليوم، وصاحبة التاريخ الطويل مع تجربة مصر فى ظل ثورة يوليو وقيادة عبد الناصر، قبل انقلاب السبعينيات على الثورة وقائدها الذى سلّم القرار المصرى لواشنطن وقبض الثمن تراجعًا فى كل المجالات!! تطوير العلاقات مع روسيا ليس رد فعل للأزمة مع أمريكا، ولكنه انعكاس لاستقلال القرار المصرى بعد الثورة، وتأكيد عمق التغيير الذى فرضه الشعب حين أسقط نظامين فى ثلاث سنوات، وأسقط معهما كل أشكال التبعية، واستعاد لمصر قدرها ومكانتها رغم الأزمات التى نثق ثقة كاملة فى أننا سنتخطاها بأقرب مما يتصور الكثيرون! تجربتنا السابقة مع موسكو كانت مثالًا فى التعاون المشترك والاحترام المتبادل، ومستقبل العلاقات معها مفتوح على آفاق واسعة فى كل المجالات، خصوصًا بعد أن استعادت روسيا مكانتها وفرضت نفسها لاعبًا أساسيًّا فى قضايا المنطقة والعالم، سنواجه ذئابًا جريحة تخشى من مصر صاحبة القرار المستقل، وسنواجه بقايا وفضلات التحالف الذى أسقطناه فى 30 يونيو بين عصابات الإرهاب وتجار الدين ومَن يرعونهم فى الخارج على أمل استمرار التبعية، وحصار الثورة ومنع مصر من فرض إرادتها وتحقيق استقلالها وبناء دولتها القوية الحديثة. لا نخوض مغامرة، بل نحقق أهم أهداف الثورة، لا نستبدل قوة عطمى بأخرى بل نخرج من التبعية للاستقلال، لا نسير وراء الأوهام بل نسعى لتحقيق المصالح المشتركة بيننا وبين دول العالم، نمد أيدينا بالصداقة للجميع، لكننا نقطع الأيدى التى تمتد إلينا بالشر، أو تحاول إبقاءنا فى دائرة التبعية، أو تتصور أن الضغوط يمكن أن تثمر مع شعب اختار الثورة طريقًا لاستقلاله وتقدّمه، ومع جيش انحاز إلى إرادة الشعب. عودة الدفء لعلاقات موسكو والقاهرة تقلق الكثيرين، لكنها تسعد كل مَن يؤمن بأنه لا شىء سيتحقق فى مصر، إذا لم تنتهِ سنوات التبعية، وإذا لم تصبح كل أوراق اللعبة فى أيدينا كما كانت قبل الموعد المشؤوم الذى أعطى لواشنطن هذه الأوراق، فأعطتها فى النهاية لإسرائيل، والإخوان، وعصابات الإرهاب، وتصوّرت أن مصر يمكن أن تقبل هذا الهوان!!