رغم ما يتمتع به من جهل حقيقى بالقضايا التى يتحدث عنها، ورغم انحيازه الواضح لسياسة حمقاء تجعل أمريكا حليفا للإرهاب ضد إرادة الشعوب.. فإن السيناتور الأمريكى جون ماكين يُحمد له بلا شك وضوح موقفه وصراحته فى الإعلان عن هذا الموقف. وبعيدا عن وقاحة شهدناها منه ومن أمثاله من السياسيين الأمريكيين الذين تعودوا لسنوات على التعامل مع مصر الضعيفة التابعة، فإن الرجل -فى آخر تصريحاته- يصرخ محذرا من عودة عبد الناصر، وصارخا من خطورة الطريق الذى تسير فيه مصر اليوم، والذى يمثل -فى رأيه- خطرا على مصالح أمريكا فى المنطقة، وشاكيا من أنه -يا ولداه- يرى صورة الفريق السيسى فى شوارع القاهرة بنظارته السوداء، فيتذكر عبد الناصر وما قاسته أمريكا فى مواجهته!! بالطبع.. الرجل لا يخاف من النظارة السوداء (!!) ولا يخشى من عسكرية الفريق السيسى بها مما يمثله (!!) ولو كانت الصورة التى يتحدث عنها هى للفريق عنان مثلا لرقص ماكين طربا، ولسمعنا منه أن مصالح أمريكا بخير كما كانت تحت حكم مرسى وفى حراسة جنرالات الإرهاب الذين لم يثيروا أى قلق لدى السيناتور الأمريكى وهم يحيطون برئيس مصر ويرفعون علم القاعدة فى قلب القاهرة، بينما الإدارة الأمريكية تتغنى بالحليف الجديد وديمقراطيته العظيمة التى أعلنت أنها تحكم المصريين بمنطق: قتلانا فى الجنة، وقتلاكم فى النار!! ما يقوله ماكين يكشف عن عامل مهم وأساسى فى التحالف بين أمريكا والإخوان، وهو العداء لما يمثله عبد الناصر.. أى العداء لمصر المستقلة التى تملك قرارها فى يدها، والتى تبنى دولتها الحديثة على أسس المواطنة والمساواة، وتقيم نهضتها على العلم والمصنع، وتقوم بدورها كقبلة للعالم العربى، وكمحور أساسى فى عالمها الإسلامى وفى جوارها الإفريقى والمتوسطى. مع ثورة يناير، كنا نعرف أن أمريكا ستفعل المستحيل لكى لا تعود لنا مصر التى غابت منذ منتصف السبعينيات، ولكى تستمر أمريكا ممسكة بأوراق اللعبة وفق رؤية السادات التى منحت واشنطن 99٪ من هذه الأوراق!! ووجدت واشنطن ضالتها فى الإخوان الذين لم يروا سببا للاحتفاظ بالواحد فى المئة الذى تركه السادات لنا (!!) فانبطحوا أمام الأمريكان كما لم يفعل أحد قبلهم، وقدموا كل ما هو مطلوب من التنازلات لينالوا بركة الراعى الأمريكى.. وقد نالوها بصورة تفوقوا فيها على حكومات وأنظمة عريقة فى العمالة وخبيرة بفنون الانبطاح!! عندما اندلعت الموجة الثانية للثورة فى 30 يونيو، لم تكن تسقط فقط حكم الإخوان الفاشى، وإنما كانت تسقط المخطط الأمريكى لشرق أوسط جديد، ولعالم عربى تابع ومنقسم وغارق فى حروبه الأهلية وخاضع لسطوة جماعات مثل الإخوان، تقوده فى طريق التخلف ولحساب الراعى الأصلى فى واشنطن!! فى 30 يونيو كنا قد أعدنا اكتشاف الحقيقة الأساسية التى تقول: إننا لن نستطيع أن نحقق شيئا من أهداف الثورة فى الحرية والعدل والكرامة، إلا إذا استعدنا قرارنا وأكدنا استقلالنا الوطنى وأنهينا التبعية بكل أشكالها. وفى 30 يونيو كنا ننهى تآمر أمريكا مع الإخوان لحصار الثورة وإبقاء الهيمنة والتبعية. وكنا نكشف محاولة التحالف الأمريكى-الإخوانى لتصوير ثورة يناير على أنها انقلاب على ثورة يوليو، مع أنها كانت استكمالا لها، وانقلابا على الثورة المضادة التى رعتها أمريكا انتقاما من يوليو وخوفا من شبح عبد الناصر حتى بعد رحيله. الآن.. أى طفل صغير فى مصر يعرف أن حديث أمريكا عن الديمقراطية لا يقنع أحدا، وأن الدولة التى تتحالف مع فصيل إرهابى مثل الإخوان لا يحق لها الحديث عن الحريات، وأن من له مثل تاريخ أمريكا فى العراق وغير العراق عليه أن يغسل يديه من دماء مئات الألوف من الضحايا قبل أن يتفوّه بكلمة عن حقوق الإنسان. الآن، ورغم أى تحفظات على الرجل، يعكس حديث السيناتور ماكين حقيقة المشكلة مع أمريكا، فهى تخشى عودة عبد الناصر، أى عودة ما يمثله فى ضمير المصريين من استقلال الإرادة وكرامة الوطن ومكانة الدولة.. تخشى أمريكا ما يريده شعب مصر بالضبط، ولهذا تقف أمريكا مع الإخوان وجماعات الإرهاب، وتحاول -بكل السبل- قطع الطريق على تحقيق أهداف الثورة. هذا هو جوهر المشكلة التى ستظل قائمة إلى أن تدرك واشنطن أن مصالحها فى المنطقة تحتاج إلى الأصدقاء.. لا العملاء!!