من باب «قلة الذوق» تحدث الرئيس الأمريكى أوباما فى خطابه أمام الأممالمتحدة عن المعونة، وعن منع توريد بعض الأسلحة لمصر. وتصور الرئيس الأمريكى أنه ما زال -بعد كل ما حدث- قادرا على ممارسة الضغوط على مصر، كما كان الأمر قبل 30 يونيو!! صحيح أن خطاب أوباما كان به عديد من النقاط الإيجابية، وأنه حاول تصحيح الموقف الذى اتخذه ضد إرادة شعب مصر فى 30 يونيو، والدعم البائس الذى قدمه لجماعة «الإخوان» قبل وبعد سقوط حكمهم الفاشى. وصحيح أن الرئيس الأمريكى يجىء اليوم -وبعد ثلاثة أشهر- ليتحدث عن إرادة الملايين من شعب مصر، وعن فشل مرسى، وعن حكومة انتقالية تستجيب لما قرره الشعب.. لكن علينا أن نكون واثقين من أن هذا ليس تفضلا من أوباما أو غير أوباما، وإنما هذا هو الواقع الذى فرضناه بصمودنا وبوحدة صفوفنا، وبإصرارنا على أن نمضى فى الطريق الذى اخترناه رغم الصعوبات والضغوط، ورغم الإرهاب الذى وجد أوباما نفسه فى صف واحد معه، وهو يدعم «الإخوان» ويقف ضد إرادة شعب مصر وثورته العظيمة!! لقد مارسوا كل الضغوط السياسية والاقتصادية، وحاصرونا إعلاميا، وهددوا وتوعدوا بعقوبات، ووقفوا علانية يدعمون إرهاب الإخوان وحلفائهم!! لم يدركوا أن أعظم ما فى 30 يونيو أنها أعادت تأكيد الاستقلال الوطنى وأن قرار مصر لم يعد يصدر إلا من داخلها. ولم يفهموا أن حديث الفريق السيسى بأن شعب مصر لن ينسى موقف أوباما من ثورته على الحكم الفاشى كان إعلانا بأن زمن الإملاءات الخارجية قد انتهى.. وإلى الأبد!! الآن، ورغم التراجع فى الموقف الأمريكى ومحاولة التعامل مع الواقع الذى فرضته مصر، فإن أوباما ما زال يتحدث عن المعونة والسلاح، وعن قدرة أمريكا على ممارسة الضغوط!! ويدرك الرئيس الأمريكى بلا شك أن بلاده هى المستفيد الأكبر من المعونة المحدودة التى تقدمها لمصر.. ولعله يدرك أيضا خطورة اللعب بقضية السلاح مع بلد يخوض حربا شرسة ضد الإرهاب ويتعرض أمنه القومى لتحديات كبيرة يعرف الرئيس الأمريكى جيدا أن سياسات بلاده مسؤولة عن جزء كبير منها!! ولتنشيط الذاكرة فقط، نقول إن مصر واجهت موقفا مشابها قبل ستين عاما.. كانت وقتها تناضل بقيادة عبد الناصر لإنهاء احتلال بريطانى جثم على صدرها أكثر من سبعين عاما، وكانت تبدأ طريقها لبناء دولة حديثة وإقرار عدالة اجتماعية بدأتها بالإصلاح الزراعى، وكانت تواجه محاولات إسرائيل المستمرة لإشعال الموقف على الحدود.. وكالعادة وقف الإخوان فى المكان الخطأ، وأعلنوا الحرب على ثورة يوليو وحاولوا اغتيال قائدها. وسط كل هذه الظروف رفضت أمريكا مد مصر بالسلاح، وكان الحصار الغربى لإبقاء الخلل فى موازين القوى مع إسرائيل، ولإرغام مصر على قبول التبعية والدخول فى أحلاف لخدمة مصالح أمريكا وحلفائها. كانت أمريكا ترتكب نفس الخطأ وهى تتصور أنها قادرة على فرض إرادتها على الجميع.. وكانت النتيجة أن مصر رفضت كل ذلك، وأصرت على التمسك باستقلالها، وعقدت صفقة السلاح الشهيرة مع روسيا «عن طريق تشيكوسلوفاكيا» لتدخل المنطقة كلها مرحلة جديدة ما زالت آثارها ممتدة حتى اليوم. لا نقول إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن نقول إن القرار فى يدنا نحن لا فى يد أحد آخر.. نحن الذين نقرر مصيرنا ونحدد مسارنا ونبنى مستقبلنا.. نحن الذين سنقضى على الإرهاب الذى يمارسه الإخوان وحلفاؤهم من الجماعات الإجرامية.. نحن الذين نمضى فى تنفيذ استحقاقات خريطة المستقبل واستكمال البناء الديمقراطى، ونحن الذين سننقذ اقتصادنا ونعبر هذه المرحلة الصعبة بكل ثقة.. ونحن الذين نبنى التحالف العربى القادر على مواجهة تحديات المرحلة.. ونحن المطالبون بالتحرك على كل الجبهات لنعيد العلاقات الحيوية مع دول إفريقيا وحوض النيل، ولنبنى من جديد علاقات مع دول صديقة شاركتنا معاركنا الصعبة مثل الهند والصين وروسيا ودول آسيا وأمريكا اللاتينية. وتبقى نقطة البدء والنهاية فى كل ذلك، أن نحسم معاركنا فى الداخل، وأن نواجه العالم بقرار مستقل لدولة تبنى نفسها بالعدل والديمقراطية وإرادة التقدم.. دولة تقول إن سنوات التبعية وفقدان الإرادة قد انتهت، وأن مصر -بعد 30 يونيو- هى وحدها صاحبة القرار فى كل شؤونها، وأن شعبها -لا أحد آخر- هو الذى يملك كل أوراق اللعبة، وكل خيارات المستقبل. و.. كنت أريد أن أتحدث اليوم عن جمال عبد الناصر فى ذكرى رحيله.. لعلى لم أبتعد كثيرا عن الموضوع!!