هل يُنصت المتظاهرون الأمريكيون ضد انتخاب ترامب رئيساً إلى العجوز الماكر المحنك هنرى كيسنجر وهو يقول إن مرحلة طرح مسألة كفاءة ترامب والتشكيك فى قدرته على تولى منصب الرئاسة قد ولّت؟ لأن ترامب، كما يقول كيسنجر، قد فاز رسمياً بالمنصب وقُضى الأمر، ولم يعد أمام الجميع إلا أن يذعنوا إلى أنه فى سبيله لدخول البيت الأبيض وأن يتولى الحكم وفق ما يراه وبالسياسة التى يتبناها. ويضع كيسنجر الأمر فى سياق السياسة العملية الواجبة، ويقول إن على ترامب الآن أن يثبت أنه يدرك التحديات الحقيقية التى عليه أن يواجهها، كما أن عليه أن يقدم تصوراته وسياساته فى تعامله مع هذه التحديات. وإن هذه هى المسائل الجديرة حالياً بالمجادلة. ولكن، يبدو أن الواقع على الأرض لا يزال بعيداً عما يطرحه كيسنجر، بل ربما يزداد بُعداً، على الأقل فى المدى المنظور، لأن المعارضين يغيب عنهم هذه المعانى التى هى صلب السياسة والتى ينبغى أن يدور حولها التلاقى والاختلاف! بل إن أعداد المتظاهرين تزداد، كما إن دوائرهم تتمدد فى مدينة بعد أخرى، وتندفع فى الطرق العامة فى حشود غاضبة، ويجنحون أحياناً إلى العنف، مما جعل بعض العقلاء يخشون من التمادى، خاصة أن المتظاهرين أعلنوا أنهم مستمرون فى سبيلهم وأنهم يخططون لأن تكون الذروة يوم 20 يناير الموعد القانونى لوقوف ترامب أمام الشعب الأمريكى ليقسم اليمين القانونية ليصبح بعدها رسمياً كامل الصلاحيات لممارسة مهامه، ويدخل سلسلة الرؤساء برقم الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدةالأمريكية. (وبعيداً عن السياق، فإن هذا قد يُسفر فى المستقبل عن تطوير أفضل للنظام الانتخابى الأمريكى). لاحظ أن هذا الموقف الحاد ضد ترامب ليس مقصوراً على الشباب فى الشارع ولكنه يلح على شاشات التلفزيونات العملاقة والصحف الكبرى، التى لا تزال تطرح سؤال الكفاءة وتطعن فى قدرته على تولى المسئولية، ربما بحدة أكثر مما كان قبل إعلان نتائج الانتخابات! وبرغم حصوله على نحو 60 مليون صوت، إلا أنهم يتعمدون أن يبدو الأمر كما لو كان مؤيدوه آحاداً أو مجموعات قليلة متناثرة، إلى حد أن أعلنت صحيفة كبرى ممن أعطى صوته لترامب أن يكتب لها عن تجربته وعن كيف اقتنع بالتصويت لصالحه وفى أى ظروف وبأى حجج..إلخ إلخ! أى اعتبار هؤلاء حالات تستحق الدراسة! وبالطبع فإن التعمد واضح فى سخرية الصحيفة وتسفيهها لترامب ولمن صوَت له! (وفى جملة اعتراضية، فإن هذه الصحيفة بالذات، بالاشتراك مع صحف أخرى، لم يتوقفوا عن نشر انتقادهم الشديد لإصرار الشعب المصرى على الإطاحة بحكم مرسى، وكانت حجة هذه الصحيفة وزميلاتها أن مرسى رئيس مدنى منتخب بشكل ديمقراطى، وأنه كان يجب أن يُكمل ولايته، بالرغم من أن الرفض المصرى كان أكبر وأشد وأكثر اتساعاً مما يبديه الأمريكيون حتى الآن ضد ترامب، كما أن مرسى قد حصل على فرصته بالفعل، ولكنه اعتدى على الدستور اعتداء يكفى لعزله ومحاكمته، إضافة إلى جرائم أخرى كثيرة لم يتطرق إلى أى منها ترامب بعد، لأنه لم يتول بعد! أم ترى أن الصحيفة لا ترى ترامب رئيساً مدنياً منتخباً بشكل ديمقراطى؟!) انتهت الجملة الاعتراضية. والحقيقة أن رفض أفكار ترامب واستنكار مواقفه بل وكراهية شخصيته العدوانية المتغطرسة، كلها لها حججها وأسانيدها الوجيهة، ولكن المفروض ألا يورطك هذا فى جحد حقائق أخرى واضحة على الأرض، منها ما يقول بأن له مؤيدين كثيرين فى أوساط جماهيرية عريضة فى طول البلاد وعرضها، كما أن عوامل فوزه كانت واردة، وفق النظام الانتخابى الأمريكى، وأنه قد أجاد حسابها ووثق من النتيجة قبل التوصل إليها عملياً، حتى أنه أعلن أكثر من مرة أنه سوف يطعن فى أى نتيجة أخرى! ومن الحقائق الأخرى الجديرة بالرصد والتسليم بصحتها، ثم دراستها بجدية فى المستقبل القريب، هى أن معظم وسائل الإعلام المؤثرة المرئية والمقروءة قد وقفت ضد ترامب علناً وضمناً، كما أن هناك ألاعيب تآمرية جرت فى عمليات استطلاع الرأى كانت تفبرك النتائج لصالح منافسته هيلارى كلينتون، وتطيح بفرص فوزه، وتؤكد أنها متقدمة عليه بست نقاط، أو بسبع نقاط، أو أنها تراجعت وسبقته بثلاث نقاط فقط!! وكلها فبركات تؤكد فوزها، من باب التأثير على الجزء من الرأى العام الذى لم يحسم اختياره، والذى يميل عادة إلى كفة من يُرجَّح فوزه. وهى نسبة لا يُستهان بها يمكنها أن تغير اتجاهات النتائج. ومن السخريات، أن ألاعيب الاستطلاع هذه كانت من أسباب تراخى كلينتون وفريقها وتصديق الكذبة التى شاركوا فيها، وأطمأنوا إلى أنهم بالفعل فائزون، فلم يتحركوا كما ينبغى فى الولايات المتأرجحة. فى وقت لم يَكلّ ولم يَملّ فريق ترامب عن العمل بكل جدية فى سبيل الحصول على كل صوت ممكن، وكان لهم أن فازوا بكل الولايات المتأرجحة، حتى هذه التى تمكن أوباما من الفوز بها والتأثير عليها، وكان يمكن لكلينتون أن تؤصل هذا الإنجاز وأن تطوره للمزيد من صالحها، ولكنها بددت الفرصة، وهى فى خيلاء الفوز الذى توهمت أنه مؤكد، فأفاقت على الصدمة التى بدت على كيانها كله فى خطاب الوداع. فيالسوء حظ الإخوان فى مصر الذين أعدوا ليوم 11/11، بحلم أن يأتى بعد أيام من فوز كلينتون، لتتلقفه هى وتستعيد به خطتها وخطتهم التى نالت ضربة قاسية، ولم يتبق إلا أن تجهز عليها مصر وتلغى إمكانياتها فى المستقبل. والظرف موات الآن، بما لم يكن متاحاً من قبل، مع الخطاب المختلف الذى يطرحه ترامب بخصوص الإرهاب، ولتكن نقطة البدء العمل على أن تتخذ أمريكا قراراً باعتبار جماعة الإخوان منظمة إرهابية. [email protected]