مع أن للكثير من المثقفين المصريين العديد من التحفظات والمآخذ على عالم الساحرة المستديرة وقد يصل الأمر للسخرية من المكاسب المادية والأرقام الفلكية لنجوم كرة القدم والتي تتوارى منها خجلا أي مكاسب قد يحققها مبدع على الورق أو أديب لامع أو صاحب قلم موهوب فإن هؤلاء المثقفين أنفسهم أبدوا انزعاجا واضحا حيال «مباراة كوماسي» التي فاز فيها منتخب غانا على المنتخب الوطني المصري بستة أهداف مقابل هدف واحد. وهنا فإن السؤال، لماذا كل هذا الانزعاج للجماعة الثقافية المصرية حيال ماحدث في المباراة الأخيرة بكوماسي في غانا.. لماذا كل هذا الاهتمام من جانب مثقفين في وزن وقامة الشاعر والكاتب المصري فاروق جويدة الذي وصف هذه المباراة بالمآساة. السبب في نظر كثير من المثقفين الذين تناولوا هذا الموضوع أن مباراة كوماسي كاشفة لأزمة مصرية لاتنحصر في مجال كرة القدم او الرياضة ككل ، وإنما تشمل أصعدة كثيرة ومجالات متعددة وها هي مؤشرات في تقارير دولية مثل تقرير التنافسية العالمية لهذا العام تؤكد التراجع المخيف في جودة التعليم الأساسي. ومن هنا تساءل البعض من المثقفين المصريين هل هي: محنة منتخب كروي ام أزمة مجتمع، فيما بدا نفر من المصريين على استعداد مقيت لخلط الرياضة بالسياسة مع نزعة لاتخلو من بهجة او شماتة ممجوجة وتثير بالضرورة علامات استفهام حول مسألة الانتماء الوطني والولاء تحت علم مصر. وفي سياق تناوله لمباراة كوماسي قال الشاعر والكاتب فاروق جويدة إن أداء الإنسان المصري في مواقع كثيرة يفتقد الإرادة والروح والإصرار، معتبرا أن ماحدث في كوماسي "نموذج يحدث في مواقع كثيرة في حياتنا. ووسط مؤشرات مثيرة للقلق - تبدو ثقافة الإتقان واجب الوقت فى مواجهة أسئلة مريرة تتردد من حين لحين وفى سياقات محزنة مثل مباراة كوماسي مثل :«لماذا نحن هكذا». فكأن المباراة هي الحدث الكاشف عن أزمة عميقة تتضمن تراجعا مثيرا للقلق في مستويات المهنية والاحتراف مع غياب أو على الأقل خلل فادح في البوصلة الاستراتيجية التي نستطيع أن نحدد من خلالها: من نحن وماذا نريد وكيف نحقق ما نريد. فالأزمة تثير التوجس بعد أن طالت مجالات متعددة فى أوجه الحياة اليومية للمصريين من تراكم أكوام القمامة على الأرض وحوادث الطرق وحرائق المصانع والورش فى الأحياء المكتظة بالسكان ومظاهر عديدة تؤشر على تبجح انعدام الكفاءة فى غياب ثقافة الاتقان. أزمة تبدو معها الجغرفيا الوظيفية للمجتمع معطلة أو معوقة مع تراجع المهارات وانخفاض في القدرات يصل أحيانا لحد الانحطاط وهي قضية بدت في الآونة الأخيرة الشغل الشاغل لمثقف مصري مثل الكاتب والمحلل نبيل عبد الفتاح. ومباراة كاشفة عن أزمة عميقة كهذه أكبر بكثير في دلالاتها من محاولة تحميل بوب برادلي المدرب الأمريكي للمنتخب المصري فوق مايحتمله اي مدرب ولاحاجة للقول فوز الفراعنة على النجوم السوداء في كوماسي او «اليوم الصعب» على حد وصفه فيما رأى فاروق جويدة ان ماحدث في غانا مآساة يتحمل مسؤوليتها الفريق قبل المدرب الأمريكي. ولعل برادلي لم يتجاوز الحق والحقيقة عندما أعرب عن اعتقاده بأن الأحداث التي مرت بها مصر خلال العامين الماضيين وضعت الكثير من الضغوط على اللاعبين المصريين.. كما أن دواعي الحق والحقيقة تقتضي التمعن في دور مايعرف بجماعات الالتراس التي انحرفت ثقافتها الكروية في مصر على نحو خطير وباتت تشكل اجواء من الارهاب النفسي في الملاعب وخارجها بما لايحتمله اي مجتمع سوي. فالمباراة أثارت وتثير تساؤلات قلقة تتجاوز بكثير وكثير مجرد مباراة لكرة القدم أيا كانت أهميتها بل إنه لايجوز الخلط بين نتيجة المباراة فوزا أو خسارة وبين مشهد عام يؤشر وينذر بحالة فشل مجتمعي بقدر مايثير مخاوف مبررة حول رهانات المستقبل. وقال مثقف مصري آخر هو الدكتور وحيد عبد المجيد ليتنا نعتذر عن عدم إقامة مباراة العودة مع غانا بعد الهزيمة الثقيلة التي مني بها منتخبنا الوطني في مباراة الذهب فلا داعي لزيادة الإحباط ولنواجه أنفسنا بالحقيقة وهي أن المستوى العام لأدائنا ضعيف في مختلف المجالات بعد أربعة عقود من تجريف المجتمع وبعد أن أخفقنا حتى اليوم في تحقيق تغيير حقيقي يرتفع إلى مستوى ثورتي 25 يناير و30 يونيو. ويوضح هذا المحلل والمعلق البارز ليست كرة القدم وحدها هي التي ينبغي أن نحزن على مستوى آدائنا فيها وإلا لهان الأمر، فالمستوى العام للأداء في مصر يجعلنا أمة في خطر بدءا من التعليم والتدريب الغائبين تقريبا إلا على سبيل الاستثناء ووصولا الى نسق القيم السائد القائم على الفهلوة والسمسرة والوساطة والاستهانة بالكفاءة. وعلى الرغم من ان الدكتور عمرو عبد السميع يصف نفسه بأنه ليس من أنصار الانصياع والخضوع للاستحالة فإن هذا الكاتب والمعلق السياسي يستدرك ومع ذلك فإن الحسابات الموضوعية والمنطقية تقول إن مصر لن تستطيع الفوز على غانا في المباراة الثانية من تصفيات كأس العالم بما يعوض فارق مباريات كوماسي الرهيب. وأضاف عمرو عبد السميع: لكن هناك شيء تبقى لنا في مباراة العودة امام غانا ارجو ان نتمسك به وهو حسن السلوك وصون ورعاية الرابطة التي تشدنا إلى أفريقيا والاحتفال بغانا كأحد ممثلي افريقيا بكأس العالم. فالخسارة واردة تماما كالفوز في أي مباراة لكرة القدم ولعل الذاكرة تحفل بكثير من المشاهد الدالة عندما صفقت الجماهير لفرق خسرت مباريات لكنها قدمت ماكل مالديها واستبسلت حتى اللحظة الأخيرة لتخرج وكأنها منتصرة وتستحق تحية الجماهير. إن الهزيمة الحقيقية سواء في الملعب الصغير أو في الملعب الكبير للحياة ككل فهي التخاذل وتدمير الذات وعدم الثقة بالنفس والافتقار للحد الأدني المقبول من كفاءة الأداء والتثاقل عن المواجهة عندما تحين لحظة المواجهة والرسوب في اختبار المصداقية. إنها حقا الهزيمة سواء في الملعب الصغير أو الكبير عندما يتحول كل لاعب في الجماعة إلى جزيرة منعزلة عن بقية الجزر المنعزلة، وقد افتقر كل لاعب للاتساق مع الذات والانسجام مع بقية اللاعبين، فيما الخطة العامة قائمة على الورق غائبة في واقع بلا تصورات أو رؤى وحافل بإشارات خطر على المستقبل وأزمة مستحكمة مع عجز في الاستفادة من دروس الأمس. إنها ممارسات الماضي المرفوض حيث الملفات تتفاقم مشاكلها والتجربة بحقائقها الصادمة على الأرض تبقى المحك والفيصل مهما استسهل البعض ثقافة الشعارات الدعائية التي تنطوي على تكاذب وخداع للجماهير واستهتار بعقل الأمة وهزل في ثوب جد وأحلام بلا واقع لتكون المحصلة فقدان الشرعية الشعبية. وإذا كانت الثورة الشعبية المصرية بموجتيها في الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013 تعبر عن تطلعات شعب لدولة حديثة وديمقراطية فإن ارتفاع منسوب الفشل في مستويات الأداء مسؤولية الجميع. وهكذا يقول الدكتور وحيد عبد المجيد إذا كان هذا هو مستوى آدائنا على كل صعيد فلنواجه الحقيقة وليتكاتف كل من يحزنهم مستوى الأداء العام في بلادنا سعيا الى بداية جديدة لانقاذ مصر. هكذا بدت مباراة لكرة القدم في صميم أسئلة المستقبل والمصير وتضاريس المسير والغاز الخرائط الجديدة التي تنهمك قوى الهيمنة العالمية في مخططات تنفيذها بالإقليم على أسس عرقية ومذهبية ملغومة بكل تكاليفها وأخطارها الفادحة على مصر وأمتها العربية مقابل مكاسب هائلة لطرف بعينه معروف للكافة. وعلى وجه التأكيد فإن وضعا كالوضع الراهن يستدعي وجود عقل استراتيجي كما ذهب الدكتور محمد السعيد إدريس وهو عقل قادر على تحديد ماهية المصالح الحيوية العليا لمصر وللدول العربية ومصادر التهديد الأساسية والثانوية لهذه المصالح. ثم إنه عقل لابد وأن يكون بمقدوره إدارة علاقات الصراع والتنافس والتعاون مع القوى الإقليمية والدولية باحتراف ومهنية وبإدراك عال ومسؤول لمواقف القوى الاقيمية والدولية من مصالحنا وبوعي يصل إلى درجة اليقين بوجود درجة عالية من التوحد بين مكونات الأمن الوطني المصري وما يعتبر أمنا قوميا عربيا يعبر عنه بمصطلح المصير العربي الواحد على حد قول محمد السعيد إدريس. ويرى هذا المحلل والمثقف المصري أن موجة الثورات العربية أحدثت وتحدث ارتباكا في إدارة السياسات داخل كل الدول العربية ، فضلا عن اهتزاز إن لم يكن افتقاد للبوصلة الاستراتيجية القادرة على ضبط أجندة الأهداف الوطنية العليا والتبصر بما يجب أن تكون عليه العلاقات مع القوى الدولية والإقليمية في عالم يشهد الآن تحولات جوهرية وتغيرات غير مسبوقة في هيكليته. ولفت الشاعر والكاتب فاروق جويدة إلى أهمية الحاجة لمراجعة النفس فمنذ قامت الثورة وحتى الآن لم نحقق إنجازا واحدا في أي مجال من مجالات الحياة.. مضيفا في مساحته اليومية بجريدة الأهرام توقف الإنتاج في مصانعنا وتدهورت السياحة وساءت حالة الأمن وانتشرت الفوضى. مع أن الفوضى هي العدو الأول للثورة وخطرها أنها تبدو وكأنها نابعة من جسد الثورة ذاته والحقيقة أنها الخلايا المسرطنة التي تضرب الفعل الثوري في مقتل وتهدد هذا الجسد بالفناء ليأتي نقيضه بكل النقائص المعادية للثورة الشعبية وتطلعات رجل الشارع. الأمر أحيانا يستحيل إلى تزوير مع النصوص المدسوسة على الثورة والتي تتخذ سردا ثوريا مع أنها كتبت بأقلام معادية للثورة ووسط هذه الدوامات كما يقول فاروق جويدة «ساءت اخلاق الناس فسمعنا من الشتائم والبذاءات والاتهامات مالم نسمع من قبل». ودعا جويدة لاستراحة بعد أكثر من عامين من الثورة جلسنا فيها أمام الفضائيات في وصلات من الردح والشتائم والتجاوزات التي لاتليق بشعب عظيم كان يوما مدرسة للأخلاق والسلوك المترفع . وأضاف، عام واحد نحصل فيه على اجازة من المزايدات والأحلام الكاذبة وتكفير الناس بالباطل وتصفية الحسابات بين القوى السياسية التي لم تدرك القيمة الحقيقية للديمقراطية والمعنى الحقيقي للحوار. وفي لحظات مفصلية في تاريخ الوطن وبالرغم من كل الأعطال والأخطاء والجراح الظاهرة والخفية لايجوز التخلي عن ثقافة التفاؤل شريطة ألا يتحول هذا التفاؤل الى اوهام وتهاويم بعيدة عن الواقع وفاقدة للقدرة على تغييره وإلا يكون التفاؤل مرادفا غبيا للتخلي عن ثقافة الاتقان والأخذ بالأسباب.. أحلامنا ليست ضائعة فهناك درب للرجاء.. هناك درب للعمل وتلك ساعة للعمل وإلا فماجدوى الكلمات.