فى مبحث «فقه الأولويات» يقول الأصوليون ومن بينهم أئمة وأعلام وعلماء كبار، إنك «إذا فعلت الصالح وتركت الأصلح فهذا من الجهل والشقاء»، وأن «أفضل أبواب العلم ما يتعلق بترتيب الخيرات للأمة فى الوقت والمكان المناسبين وبالدرجة المناسبة»، أما ترك ترتيب المصالح للفوضى فتعتبرها جمهرة العلماء «من جملة الشرور»، ذلك أن المصلحة «مصلحة الجماعة» أوْلى بالرعاية دائما ومقدمة حتى على فرز الحرام والحلال. لماذا هذا الاستهلال؟ لكى أشير إلى محادثة هاتفية طويلة جرت بينى وبين الصديق الدكتور حسام عيسى نائب رئيس الوزراء للعدالة الاجتماعية ووزير التعليم العالى، أبدى فيها استغرابه الشديد من اهتمام كثير من وسائل الإعلام بقضايا ربما هى مهمة لكنها قطعا تأتى فى ترتيب الأولويات خلف قضايا وأمور أشد خطرا وأعظم شأنا وأقوى اتصالا بمصالح الأغلبية الساحقة من المصريين. وقد ضرب الرجل مثلا على هذه الفوضى التى يعانى منها وتضغط عليه وهو يمارس عمله، بذلك الضجيج الهائل وحجم الضوء الغامر الذى تستحوذ عليه مشكلة جامعتى «النيل» و«زويل»، بينما تشكو مشكلات بل وكوارث أخرى تخص التعليم العالى من إهمال ونسيان وظلام دامس، ولا يكاد يتذكرها أو يهتم بها أحد رغم تأثيرها الرهيب على مصالح الملايين من شعب مصر ومستقبل أجياله الصاعدة والمقبلة. سألنى الدكتور حسام: ماذا أفعل أمام عناد طرفى المشكلة المذكورة وتمترُس كل منهما فى خندق يعتبره حقا مكتسبا من زمن كانت الدولة تدار فيه بالهوى والمزاج والاستخفاف بالقانون والأصول؟! هل أتفرغ تماما لهذه المشكلة العبثية التى يعانى منها فعلا بضع عشرات من الطلاب الذين لا ذنب لهم، وأترك مآسى لا أول لها ولا آخر تجعل من مرفق التعليم العالى كيانا على وشك الانهيار، ويُنتج تخلفا وجهلا أكثر مما ينتج علما ينفع الناس ويبنى الوطن؟! استمر الدكتور حسام يسأل بوجل وحزن: هل تعرف مثلا يا أخى، أن مشكلة عدم وجود أماكن للملايين من أبنائنا فى المدارس وحشرهم على نحو غير آدمى بالمئات أحيانا فى مخازن بائسة يُقال عنها «فصول».. هذه المشكلة انتقلت إلى الجامعات من زمن طويل وهى تتفاقم عاما خلف عام، لدرجة تجعل تلقّى الطلاب علما حقيقيا أمرا يلامس حدود المستحيل؟! هل تعرف أن بعض كليات العلوم فى الجامعات الإقليمية الجديدة ليس فيه معامل ومن ثمّ لم يعد له علاقة لا بالعلوم، ولا بالزمن الذى كنا نفخر فيه بأن علماء من قامة وعبقرية على مشرفة وأحمد مستجير ومصطفى طلبة وأحمد زويل وغيرهم تخرجوا فى معاهدنا وكلياتنا؟! هل تعرف كيف وصل حال كثير من مستشفياتنا التعليمية التى يفترض أن تقدم خدمة العلاج المجانى للملايين من مواطنينا الفقراء؟! عند هذا الموضع، تذكر الدكتور شيئا لوّن صوته بالغضب ووجدته يهتف: ما هذا الذى يفعله إخواننا فى لجنة الخمسين المكلفة بكتابة دستور جديد للبلد؟ لماذا إن شاء الله يتجهون إلى إعادة هذا الشىء الذى كان يسمى «مجلس شورى» ولم يكن له فائدة سوى منح الحصانة ومكافآت وسفريات لبضع عشرات من الناس من دون أن يقدموا شيئا له قيمة للبلد؟ هل نحن فى وضع يسمح لنا بهذا السفه المالى والسياسى؟! البعض يقول الآن إن هذه «الزائدة الدودية» التشريعية لا تكلف الموازنة العامة سوى 130 مليون جنيه فى السنة فقط، ورغم أننى أعرف أن هذا الرقم ليس إلا نصف الرقم الحقيقى، فإننى راضٍ بحكم كل من عنده بقية من ضمير.. هل الأَوْلَى إنفاق ال130 مليونا هذه على غرفة برلمانية ثانية لا لزوم لها، أم على مبانٍ ومرافق جامعية تنشر نور العلم والمعرفة فى البلد؟! إننى أحتاج إلى نصف هذا المبلغ مرة واحدة لكى أحول مستشفى قصر العينى التعليمى «مثلا» الذى يستقبل سنويا أقل قليلا من 2 مليون مريض فقير، إلى شىء آخر.. شىء يليق بحقوق وكرامة هؤلاء المواطنين الذين لا يتذكرهم أحد، والمطرودين دائما من جنة اهتمام البهوات، ويعانون الغربة خارج قائمة أولوياتهم الفوضوية!! هكذا تحدث الوزير.