فى توقيت دقيق تقدمت روسيا الاتحادية بمبادرة تقضى بوضع أسلحة سوريا الكيماوية تحت إشراف الأممالمتحدة، وهى مبادرة ما كان يمكن للولايات المتحدة أن ترفضها، ولا كان بإمكانها أن تواصل الحشد أولا لضرب سوريا فى ظل مبادرة من هذا النوع، جاءت المبادرة الروسية لتوقف الاندفاع الأمريكى نحو ضرب سوريا، ولتعرى الموقف الأمريكى ومواقف إقليمية كانت تدفع باتجاه ضرب سوريا لمصالح ذاتية أبرزها تركيا أردوغان التى كان لعابها يسيل لالتهام المزيد من الأراضى السورية. الحقيقة أن السياسة السورية تجاه الأزمة السورية تمثل نموذجا يمكن تدريسه على دور القوى الدولية فى كشف أوراق قوى دولية كبرى، تعرية موقفها، دعم الحليف الإقليمى دون ضجيج أو فوضى التصريحات. عندما بدأت واشنطن مع أطراف إقليمية عربية وغير عربية تخطط لتوجيه ضربات لسوريا بذريعة وقف عدوان النظام على الشعب، لم تعارض روسيا ذلك، بل قالت بوضوح إن أى عمل عسكرى ضد سوريا لا بد أن يسبقه قرار من مجلس الأمن الدولى، هكذا تقول قواعد القانون الدولى ومبادئ الأممالمتحدة، وهكذا يقتضى احترام الشرعية الدولية. لم يهتز الموقف الروسى بفعل ترخيص الجامعة العربية للأمم المتحدة بضرب سوريا، ولم تعلن روسيا أنها ستواجه الولاياتالمتحدة إذا ما قررت واشنطن ضرب سوريا، قالها بوضوح وزير الخارجية الروسى، إننا لن نخوض حربا تضامنا مع طرف آخر، أى أن روسيا لن تخوض مواجهة عسكرية مع الولاياتالمتحدة إذا قررت ضرب سوريا، وهو ما شجع الولاياتالمتحدة على التمادى فى الحشد لضرب سوريا. فى نفس الوقت أعلنت مصادر روسية أنها لن تسلم سوريا صفقة صواريخ بسبب عدم سداد دمشق لثمن الصفقة، وهو ما اعتبرته واشنطن دليلا إضافيا على ابتعاد موسكو عن دمشق. جاء التحرك الأمريكى الأبرز عندما جرى الحديث عن استخدام السلاح الكيماوى ضد المدنيين، وهو ما يعتبر جريمة بحق الإنسانية، روجت واشنطن وحلفاؤها للقول بأن النظام هو من استخدم السلاح الكيماوى ضد المدنيين، ردت روسيا بأن المعارضة هى التى استخدمت السلاح الكيماوى، وأن الفيصل فى ذلك تقرير فريق مراقبى الأممالمتحدة الذى زار سوريا. هذا بينما روجت واشنطن للقول بأن نظام الأسد هو من استخدم السلاح الكيماوى، وحركت واشنطن قِطعًا حربية باتجاه السواحل السورية فى إشارة لقرب توجيه الضربة العسكرية لسوريا، ولم يصدر عن موسكو ما يفيد مواجهة هذا التحرك الأمريكى. شهدت هذه الفترة تحركات دبلوماسية مقابلة ضد توجيه ضربة لسوريا، وتحركات شعبية ترفض ضرب سوريا، فى الوقت نفسه تراجع حلفاء واشنطن عن السير وراءها فى مخطط ضرب سوريا، وكانت البداية من بريطانيا الحليف التقليدى لواشنطن والذى عادة ما يسير خلف السياسة الأمريكية دون أن يسأل عن السبب، بعدها تراجعت فرنسا، بينما عبرت دول أوروبية أخرى عن تمسكها بإدارة القضية من خلال مجلس الأمن الدولى. كانت المؤشرات تفبد بأن الضربة الأمريكية لسوريا قادمة فى الطريق لا محالة لا سيما بعد ظهور مؤشرات أولية على احتمال موافقة مجلسى الشيوخ والنواب على توجيه الضربة لسوريا لحسابات أمريكية بحتة لا علاقة لها بما يجرى على الأراضى السورية من جرائم وانتهاكات، وفجأة أعلنت موسكو عن مبادرة تقضى بوضع السلاح الكيماوى السورى تحت إشراف الأمم متحدة ورقابتها، وهى مبادرة لا يمكن رفضها على الإطلاق لا سيما وأن السلاح الكيماوى الذى يعتبر «سلاحا نوويا للفقراء» متوافر بشدة لدى النظام السورى، وإخضاعه للإشراف الأممى يعد مكسبا كبيرا على طريق نزع هذا السلاح لا سيما من المناطق الملتهبة. رحبت أطراف دولية عديدة بالمبادرة الروسية، رحبت بها الأممالمتحدة ودول أوروبية عديدة، لم يرفضها النظام السورى، فلم تجد واشنطن أى حجة لرفض المبادرة، وقبولها يعنى وقف السير فى طريق ضرب سوريا. لم يتوقف التحرك الروسى عند هذا الحد، بل باتت موسكو قبلة كل من يريد أن يدلى بدلوه فى الأزمة السورية، توارت واشنطن وأصبحت سياستها رد فعل، وسيطرت موسكو على الملف وبدأت تطرح مبادرات سياسية لتسوية الأزمة، وتوجهت أطراف عديدة معنية بالملف السورى صوب موسكو، بحثًا عن حل وتجاوبا مع المبادرة الروسية، ولعل زيارة الشيخ محمد بن زايد ولى عهد أبو ظبى لموسكو أمس تعد مؤشرا على ما حققته موسكو من نجاح فى الاستحواذ على الملف السورى وإدارته على نحو يحرم واشنطن من تحقيق ما تصبو إليه من مصالح فى المنطقة عبر استخدام الملف السورى. إدارة موسكو لملف الأزمة السورية يكشف عن عودة موسكو للعب دور فاعل فى النظام الدولى، وهو أمر يصب فى صالح القوى الساعية لتحقيق درجة أعلى من الاستقلال والحرية لشعوبها ولحركتها فى مجال السياسة الخارجية، ويقلص فى الوقت نفسه من قدرة واشنطن على إدارة النظام الدولى منفردة.