الشاعر العراقى الكبير سعدى يوسف، الذى يبلغ الثمانين العام القادم 2014 ما زال قادرا على العطاء وإثارة الدهشة، وما زالت قصائده المفعمة بالحنين والألم والرغبة والحياة تجذب القارئ لها بقوة، وهو على عهده بنا لا يتخلى عن بساطته القادرة على استيعاب حالاته وتطوحاته الاجتماعية والسياسية والشخصية دون أدنى تنازل للأساليب التقريرية، وأعتقد أنه الشاعر العربى الأبرز الذى يستطيع أن يدرج يوميات وتفاصيل هذه اليوميات دون أن يسقط فى المباشرة، ودون أن يخل بمساحات الجمال التى تتسع لها قصائده، فمنذ أن بدأ رحلته الشعرية منذ أكثر من ستين عاما عام 1952 يعمل على مشروعه الجمالى فى كل كتاباته خصوصا الشعر، حيث إن سعدى يوسف كتب القصة القصيرة والرواية، وقد نشرت له مجموعة قصصية فى الخمسينيات، ونشر كذلك رواية فى التسعينيات، وما عدا ذلك له ترجمات شعرية كثيرة جدا.. وفى ظل كل هذا الإنتاج يظل الشعر هو عمود التجربة لدى سعدى يوسف، وهو شاعر لا يجيد فنون المزاحمة التى يجيدها بعض أبناء جيله مثل أدونيس وغيره، وهو يقول عن نفسه: «إننى أعيش فى الظل ولكننى أكتب فى المواجهة»، وهو كذلك لا يتقن الانقلابات الشعرية، ولكنه يتطور بعمق، وربما فى هدوء، لذلك فأثره على الأجيال اللاحقة له كبير جدا وواضح، وله أكثر من ثلاثين ديوانا، وقد صدر مؤخرا ديوانه الجديد «طيران الحدأة» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفيه يجدد سعدى حنينه المتتالى لوطنه العراق، الذى داسته القدم الأمريكية عام 2003 بكل رعونة، وبالتالى لم يشبه العراق الذى كان يعرفه بالعراق الحالى، ولكنه لا جدال فى أن العراق الحقيقى سيعود، ويعيد كل طيوره المهاجرة والمنفية والمشردة. سعدى لا يكل من تكرار حنينه الباكى والمؤلم، حنينه المصبوغ بحس كونى وإنسانى عارم، هذا العراق المطارد والمطرود والمستبعد والمستعبد، ولذلك فسعدى يستدعى عراقه الخاص والحقيقى، ويطرد العراق المشوه والمكبل والأسير لدى مختلف السلطات والتقاليد، هذا العراق الذى سيعود يوما حتى ولو بعد حين، فنسمعه وهو يقول من منفاه اللندنى: «أتملى سماء الشتاء بلندن هذا المساء، السماء التى قد ترى، لا ترى، والصقيع المبكر فى العشب، أوفى الزجاج الثخين لسيارتى وهى تهمد فى الساحة، الليل يدخل (قبل الأوان)؟ ولكنه الليل... يأتى، سدى بهواجسه، والكلام عن الليل.. هأنذا أتملى السماء التى لا أرى، أتملى العراق الذى لا أرى، ربما بعد قرن، يعود العراق، وفى العام 2112، مثلما ما هو فى هذه اللحظة، سوف يأتى لنا مقتدى الصدر بالأغنيات، ويأتى الصبى المعمم عمار بالراقصات، ويأتى لنا المالكى بألوية من طويريج، متخمة ومدججة، سوف يأتى لنا البارازانى، والطالبانى بالشقشات......الطريق طويل إذن يا رفيقى».. هكذا يطلق سعدى هواجسه عبر كلمات ومفردات تحمل طاقة القلق واستنطاق السواكت المشرعة أمامنا فى الواقع، فالعراق من الممكن أن تطول رحلة عودته إلى مئة سنة، ومن الممكن أن يعود بالظواهر والشخصيات والقادة الماثلين فى المشهد الآن، ولأن العودة ستطول، والرحلة عاصية، فمسألة الاستقرار شبه مستحيلة، والمكوث فى بيت ليست سهلة: «أنا أبحث عن بيت، منذ سنين وأنا أبحث عن بيت، كم بلدان طفت بها وأنا أبحث عن بيت، كم قارات، كم أثواب نساء.. كم ساحات للقتل، وكم كتب.. كم مدن.. وأخيرا: أنا فى طنجة أبحث عن بيت، منذ سنين وأنا فى طنجة أبحث عن بيت، لكنى سأعود (كما كنت) بلا بيت، اللا بيت هو البيت...إذا»، هكذا تستقر حيرة الشاعر بأن التيه هو نهاية التائهين، واللا بيت هو البيت، فالفنادق والشوارع والمقاهى والأزقة والبارات والمطاعم والشقق المفروشة دوما يكون الشاعر سعدى يوسف ضيفا عليها، ودوما تكون هذه الأماكن مصدر أغانيه وقصائده وربما راحته، فسعدى يوسف أتقن الغربة والسفر، يحمل وطنه فى روحه وكلماته وإيقاعاته وصباحاته، طالما أن هذا الوطن أصبح بعيدا تماما، أصبح هو والمستحيل سواء، إذن فليستحضره هنا فى قصائده، ويتماهى معه، ويبدعه مهما استعصت الكلمات «أنت وحيد، قائظ، تنتظر الفجر الذى سوف يهل، اليوم، أو بعد قرون.. لك أن تفعل ما شئت، وأن ترقص والنورس فى غرفتك... الفجر سيأتى». وبعيدا عن الوطن والعودة والعراق والحنين تتسرب فى بعض قصائده هواجسه الشعرية، سعدى السائح والجواب والقلق والمقلق يطلق بعض ثوابته الفكرية التى يهاجم فيها الخراب الذى تنتجه قوى الظلام: «كان الإسلام الحائط، آخر ما نلتاذ به، حين تضيق بنا الدنيا، ويحاصرنا الأعداء، الإسلام هو الجذع، الخيمة حين يطيح الأعداء البيت، الإسلام هو المنبت والنبت وآيات حفاة وشراة، الإسلام: على، عمر، الخنساء، وطارق بن زياد، الإسلام هو المرأة فى السوق، هو الشاعر فى الدسكرة، الإسلام هو الحرية فى أن لا تؤمن بالإسلام، ليس الإسلام قميص الأمريكى، ولا جزمة ذاك النرويجى، أو الغالى، وليس سلاح ذوى الأحداق الزرق، الإسلام هو الحلم بآخرة بيضاء، وأسراب حمام». كذلك يأتى غناؤه للحياة أصفى ما يكون، وأبسط ما نقرأ: «الحياة جميلة، وجديرة أبدا بأن نحيا بها... الأشجار تحيا، والعصافير، والقنافذ، والذئاب، النمل والحلزون والأفعى الجميلة، لا تقل لى إننى أمسيت كالشعراء، إنى أفقر الفقراء، كم حاولت، حتى هذه السبعين، شيئا تافها، وفشلت: تلك الخيمة»، ما نقرؤه من قصائد لسعدى يوسف ليست إلا تفصيلات لرجل يحيا كما يريد، وفى ما يكتب يعلن عن فرحه وحزنه ومكبوتاته وعقيدته المفتوحة على فضاء الحرية بشكل مطلق، لا تتأطر قصيدته برقيب داخلى أو خارجى، فهو يعطى حرية كاملة لروحه لتنطلق، ومن الممكن أن يخرج عن قوانين الشعر ليبدع شعرا، فليست هناك قوانين للكتابة، لذلك فهو يكتب نصا حرا، ويحكى فيه حكاية عن صديقته الباريسية التى استضافته فى بيتها الصغير فى باريس، ويتعرض لما حدث لهما فى الطريق العام، يبكى سلسلة ذهبية سرقها لصوص مغاربة، مع بضعة أشياء أخرى، عزيزة عليه، أما هذه السلسلة ليست إلا خارطة العراق الوحيدة التى يعلقها فى رقبته، ثم يترجم ثلاث قصائد سحاقية للشاعرة أدريان ريتش، ويقوم بتعريفها تعريفا ملفتا ويقول فى مقدمة ترجمته: «كنت أتابع أدريان ريتش شاعرة ومناضلة، وشخصية أكاديمية مرموقة» ويستكمل: «قلت لعالية ممدوح فى باريس إننى أريد نقل قصائد ريتش السحاقية إلى العربية، استعجلتنى وقالت: أنت نقلت كافافى اللوطى إلى العربية، ما المشكل فى ريتش إذن»، هكذا لا يتردد سعدى يوسف الشاعر العراقى أن يُضمِّن تجاربه محض واقعى، ومحض غرائبى، أن يستنبت زهورا مدهشة كثيرة فى بستانه الباذخ.