اقرئى هذه الجملة التى كتبها صديق راجح العقل، وابلعى الصدمة. الجملة تقول: «إن التناقضات بين بعض قوى ما يعرف بالثورة المضادة، وبين بعض قوى ثورة 25 يناير، أقل من التناقضات داخل قوى 25 يناير نفسها». هل عندك استعداد للتفكير فى الجملة بموجب الوقائع؟! التناقض بين القوى الديمقراطية الليبرالية المنضوية تحت «25 يناير» وبين جماعة الإخوان المسلمين تناقضات حول مفهوم الدولة من الأساس. حول فكرة الدولة الحديثة. حول فكرة الديمقراطية. حول فكرة المساوة بين المواطنين. حول فكرة منبع الشرعية. ليست هذه تناقضات بسيطة. والإسلامجية يعلمون ذلك. ومتحدثوهم عبروا عنها أكثر من مرة، لكننا من كثرة ما ترددت الجملة لم نعد نفكر فى معانيها. إنهم يعتبرونها صورة لصراع الإيمان والكفر. أما نحن فنقول، بمنتهى الأدب، إنها صراع بين فكرة الدولة الحديثة، وفكرة الحكم القبلى/العشائرى/العائلى.. إلخ. هذه تناقضات لا يمكن حلها، ولا يمكن التجاوز عنها، لأنها تناقضات فى الأصول، لكننا -ويا للعجب- اعتقدنا وقت 25 يناير أننا نستطيع ذلك. لقد كان هذا غباء محضا منا، غباء كرره بعضنا بالتصويت لمحمد مرسى فى انتخابات الرئاسة، وتصديق وعوده. الإسلامجية يمارسون معنا شعار «الحرب خدعة»، وبعض من يعاونهم حسنو النية، وبعضهم جزء أصيل من هذه الخدعة.. فئة أخرى -كنت منها- قاطعت. ساوت بين خطر الإسلامجية وبين خطر «الثورة المضادة». إنما فئة ثالثة من أنصار الثورة عزموا أمرهم وانتخبوا شفيق. عصروا ليمون وانتخبوا شفيق، رغما عن كل الدعاية. هؤلاء كانوا أول من فتح عينى وذهنى إلى هذه الحقيقة، التى يمنعنا الابتزاز الأخلاقى من التفكير فيها. الابتزاز الأخلاقى مسؤول عن أغلب كوارثنا فى الحياة. هؤلاء كانوا سباقين فى إدراك الجملة التى بدأت بها المقال، والتى أعيدها الآن بتصرف: إن حجم التناقض بينى وبين بعض «أعدائى» أقل من حجم التناقض بينى وبين بعض «رفاقى». وإدراك هذا كان جوهر ما حدث فى 30 يونيو.. وهل هناك قوى مشجعة لقيام دولة ديمقراطية بين أنصار مبارك؟ أى نعم! والخلاف بيننا وبينها يتعلق بسلوك الدولة، وليس حول فكرة الدولة. لماذا لم يفعلوا ذلك وهم فى السلطة؟ لعدة أسباب، ربما لم تكن السلطة فى أيديهم تماما، وربما لأن الفساد كان من مصلحتهم، ولم يكونوا متضررين منه، لم أقل إنهم -ولا نحن- ملائكة. طيب. ما غرض كل هذا الكلام؟! غرضه أن يدرك أنصار الدولة الحديثة، العالمانية، الديمقراطية، أن هذه الدولة فى خطر بسبب قصور تفكير بعضهم، وبسبب عبادة بعضهم للشعارات، وبسبب رغبة بعضهم الانتقامية، وبسبب رغبة بعضهم فى استمرار استفادته من وضع لا ديمقراطى. إننا مقبلون على استحقاقات انتخابية، وعلى فترة عصيبة من تاريخ مصر السياسى. من المهم جدا أن نعى شيئين. أولا- استمرار التشاحن سيقوى خصوم الدولة الحديثة، الإسلامجية ومن يدور فى فلكهم. وأنتم ترون كيف يتحزب أنصارهم من شتات العالم ويتدخلون فى الشأن الوطنى. ثانيا- استمرار التشاحن سيجعل غرض المنتصر فى الانتخابات الاستبداد والانتقام. هذا غرض لن ينجح فيه كما لم ينجح فيه الإخوان. بالإضافة إلى ذلك فإنه غرض مدمر لمستقبل مصر، ويعبر عن ضآلة الشعور الوطنى الحقيقى، بينما أصحابه يتغنون بالوطنية. من تظن أن اختيارا شبيها بما حدث بين مرسى وشفيق صار من أمور الماضى واهمة. فتحالف العداوة للدولة ليس تحالفا هينا، لأن فيه أطرافا كثيرة تخلط بين كراهية دولة مبارك وبين كراهية الدولة كفكرة. كما أنه ليس من مصلحة أحد الآن خلق «طرف ثالث سياسى» بين أنصار 30 يونيو، يكون من مصلحته التدمير والتقويض. وهذا يستلزم من كل أنصار الدولة الوطنية الحديثة أن يتحدثوا معا. أن يكونوا مستعدين «للذهاب إلى آخر الدنيا» من أجل هذا الغرض. هذا توافق أكثر إمكانا بكثير من التوافق مع حلف أعداء الدولة. المؤسسة العسكرية تحتاج إلى استخدام الثقة فيها للتقريب بين وجهات النظر، وليس لإذكاء الخلاف بالانحياز إلى طرف دون آخر. على قاعدة لا غالب ولا مغلوب. هذا من مصلحة الاستقرار فى مصر فى الفترة القادمة، لكنه يحتاج إلى خيال سياسى، وإلى بعد نظر. للأسف، هاتان صفتان نادرتان فى النخبة السياسية.