سمَّاهم سهيل إدريس، صاحب دار الآداب، الراحل «جيل الملتزمين العرب»، وهم نفر من المثقفين خدموا الأيديولوجيا وخذلوا الحريات، موزعون بين قوالب اليسار واليمين والقومية والإسلامجية، فى زمن واحد أو أزمنة متتالية، كانوا فى السلطة أو فى الهامش. مبررات بيع الحريات والتضحية بالديمقراطية تتغير بتغير قبلة الكاهن الثقافى، فهى مرة قضية الاستقلال الوطنى، وهنا يجمل الكاهن ل«عبدالناصر» انتهاكه لحقوق الإنسان، أو حق العمال والكادحين، فيغفر للمستبد حتى الانتهاك الشخصى، مثلما قال محمود أمين العامل: مرة كنت أصفق ل«عبدالناصر» وأنا أُضرب على قدمى فى المعتقل. والإسلامجية يرحبون أيضاً بالاستبداد طالما كان خطوة فى سبيل «التمكين»، أو ضربة لأعداء فكريين يخرجون من سياق «العصبة المؤمنة». *** التاريخ يحفظ الأمثلة، فعندما غزا صدام حسين الكويت وقف خلفه كهنة القوميين وبعض اليسار، لأنه «سيقطع طريق القدس بدءاً من الكويت»، وسيوزع ثروات الخليج على المحرومين، فيما أيده بشده فى مراحل لاحقة إسلامجية أثناء مواجهته للجيش الأمريكى، لأنه «يواجه أهل الكفر الغزاة»، وبين الفرقتين كان هناك عابرو الجسر، ممن كانوا فى فرقة وذهبوا للأخرى، فاحتفظوا «بدوجما» الاثنين، ف«عادل حسين» مثلاً اليسارى المنتقل إلى معسكر الإسلامجية، قال فى جريدة «الشعب» إن الجيش العراقى فى طريقه للنصر، وباع إعلام الإسلامجية بأدوات الستينات، الوهم. وتناسى الجميع سجل صدام حسين القمعى، ومسئوليته عن مقتل ما لا يقل عن مليون عراقى خلال فترة حكمه، كما تناسوا فساد أسرته وتورطها فى «بيزنس» السلطة. الأمر تكرر، مع حكم «البشير»، قال إسلامجية مصر إن ثورة الإنقاذ 1989 تنجز أكبر «معدل تنمية اقتصادية فى العالم»، لافتين إلى أن حكم الإسلام سيضمن رخاء سرمدياً وسريعاً. على مستوى الفرد الواحد يمكن مشاهدة «مأساة الالتزام»، خذ مثلاً الكاتب الإسلامجى فهمى هويدى، أثناء تولى أربكان مسئولية الوزارة التركية، اعتبر صعود الرجل هزيمة للعلمانيين، وعندما سقط قال إن السقوط نتاج المؤامرة، وفى خضم (الالتزام) سقطت تفاصيل كثيرة، منها أن الرجل (أربكان) لوح باستخدام العنف الدينى، قائلاً: التركى لا يفخر إلا بسلاحه وشاربه، كما مارس تكفيراً تالياً تجاه تلميذه «أردوغان»، معتبراً أن من يدخل حزب أردوغان «ليس مسلماً».. لكن المثير أن التزام «هويدى» ب«أردوغان».. هو ذاته التزامه ب«أربكان». الالتزام هو ما يجعل السلفيين الآن يوافقون على دستور «الإخوان» لأن العلمانيين يرفضونه، وهو ما يجعل محمد بديع يثمن حكم السفاح عمر البشير، مبشراً بسيادة حكم الإسلام. **** على هامش «الملتزمين» تظهر طبقات من السماسرة والمنتفعين، صاحب فضائية ملتحٍ يدشن حملة لنصرة داعية إلهام شاهين برسائل موبايل تذهب أرباحها إلى «كرشه»، ومسئول فى الحزب الناصرى يذهب إلى السفاح بشار الأسد ليعلن مساندة الناصريين ل«الأسد» ضد الإمبريالية.. وحصيلة الرحلة فى «كرشه» أيضاً. المثير أنه بعد تراث من الالتزام وبيع الحريات.. نسأل لماذا لا تنجح الديمقراطية؟.