لست من المؤمنين بجدية وعلمية ومنهجية استطلاعات الرأى العام التى تجرى فى مصر، كما لست على ثقة أو يقين بتجرد وحياد ونزاهة ما يجريه عدد كبير من المراكز العاملة فى هذا المجال، خاصة فى ظل تجارب سابقة تشير إلى أن كثيرا من هذه الأدوات العلمية كانت تستخدم وتوظف لأغراض سياسية حتى على غير الحقيقة، ولعلنا نذكر مثلا استطلاعات كانت تجرى فى عهد مبارك وتشير لتأييد غالبية المصريين له ورضاهم عن الأوضاع فى عهده قبل شهور قليلة من اندلاع ثورة يناير ضد نظامه وسياساته.. كما أن التدخلات الأمنية العديدة وهيمنة ما يسمى بالأجهزة السيادية على كثير من تلك المراكز واستطلاعاتها يصبح عاملا مضافا إلى هذه الشكوك والهواجس حولها، ودون أدنى شك فإن بعض هذه المراكز دون أن نعمم تعمل بمنتهى الوضوح فى خدمة السلطة وأجهزتها. لكن رغم ذلك كله، فإن التوقف أمام دلالات بعض استطلاعات الرأى يبدو أمرًا شديد الأهمية، لا لأنها تقدم جديدًا على الأقل من وجهة نظرنا، وإنما لأنها تثبت واقعًا محسوسًا، ربما يكون فى ذلك رسالة أو دلالة ما لأصحاب العقول فى السلطة إن وجدوا، وللأجهزة المهتمة بمتابعة الرأى العام وتقديراته إن كانت لها أهمية لديهم، خاصة عندما يصدر عن جهات إذا لم تكن محسوبة على سلطة أو أجهزة، فهى على الأقل محايدة. (1) الاستطلاع الأخير الذى أعلن مركز بصيرة عن نتائجه، حول أداء الرئيس عبد الفتاح السيسى بعد 26 شهرًا من حكمه، وهو يأتى تاليًا مباشرة لاستطلاع آخر منذ شهرين تقريبًا حول نفس الموضوع بمناسبة مرور عامين على حكم السيسى، ومن هنا تأتى أهميته الحقيقية، فرغم التباين فى حجم العينة نسبيا مما قد يكون مؤثرًا على النسب والأرقام فيه، فإن دلالاته الأساسية لا تأتى من حيث النسب المعلنة فى المطلق، بل من مقارنتها باستطلاع آخر من نفس الجهة وتقريبا على نفس العينة ومعاييرها، بعد أقل من شهرين فقط. الاستطلاع الذى أجراه المركز حسب موقعه الرسمى يومى 8 و9 أغسطس الجارى، أى منذ عدة أيام فقط، جاء ليكشف عن موافقة 82% على أداء الرئيس السيسى، وهو رقم قد يبدو كبيرًا بالطبع، ويعكس استمرار شعبية السيسى فى الشارع المصرى رغم كل الأزمات، لكنه فى المقابل وعند مقارنته بالاستطلاع السابق منذ أقل من ثلاثة أشهر الذى أجرى فى الفترة من 20 إلى 24 مايو، يكشف عن تراجع هذه النسبة التى كانت وقتها 91%، بما يعنى تراجع 9% من المصريين على موافقتهم على أداء الرئيس خلال أقل من ثلاثة أشهر! هذه دلالة أولى شديدة الأهمية، لا تكشف فقط عن التراجع فى شعبية الرئيس، بل كذلك عن تسارع هذا التراجع بشكل كبير وخطير يستحق التوقف أمامه.. ويتأكد هذا المعنى عند مقارنة نسب أصحاب الإجابات الأخرى على نفس السؤال، فبينما فى مايو الماضى كانت نسبة غير الموافقين على أداء الرئيس 7% فقد ارتفعت هذه المرة إلى 12% بزيادة قدرها 5% دفعة واحدة، أما غير المتأكدين أو من لا يستطيعون الحكم فارتفعت نسبتهم من 2% فى مايو الماضى إلى 6% فى أغسطس الجارى.. وهو ما يعنى ضمنًا بالمقارنة بين الأرقام، أن أغلبية ال9% الذين كانوا مؤيدين للرئيس فى مايو الماضى تحولوا إلى عدم الموافقة على أدائه بنسبة 5% بينما 4% منهم لا يستطيعون الحكم بعد. (2) الدلالة الثانية التى كثيرًا ما نتحدث عنها ونشير إليها ويتم إنكارها أو الحديث عن أنه مجرد كلام مطلق لا دلالة عليه، هى فى ما يتعلق بالقطاعات المستمرة فى دعم السيسى وسياساته الحالية، والتى ندعى أن نسبة المعارضة والاختلاف فيها تتزايد كلما ارتفع مستوى التعليم والوعى وبالذات بين الأجيال الشابة.. وهو أيضًا ما تكشف عنه بشكل ما النسب المذكورة فى الاستطلاع، فمن بين الحاصلين على تعليم أقل من متوسط هناك 84% موافقون على أداء الرئيس، بينما تنخفض النسبة بشكل واضح بين الحاصلين على تعليم جامعى لتصل إلى 78%، وهو ما يكشف عن التفاوت الكبير فى الموقف من أداء وسياسات السيسى حسب مستوى التعليم والوعى.. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الموافقين على أداء الرئيس فى هذا الاستطلاع تبلغ نسبتهم بين من بلغوا 50 عامًا فأكثر 89% وتنخفض إلى 71% فقط بين الشباب أقل من 30 سنة. الدلالة الثالثة تأتى فيما يتعلق باحتمالية إعادة انتخاب السيسى رئيسًا لدورة جديدة فى 2018، وهو ما تنبع أهميته من التزامن مع طرح مبادرات فى الشهور الأخيرة حول فكرة البديل وتطورها فى مبادرات أخرى، لما يتعلق بالاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة، وبينما يجيب 66% بأنهم سينتخبون السيسى إذا أجريت الانتخابات غدًا، وهى نسبة تشير بوضوح إلى حجم تراجع الشعبية عند مقارنته بنسبة 97% فى الانتخابات التى أجريت فى 2014، بغض النظر عن ملاحظاتنا المتحفظة على دقة كلا الرقمين، وفى المقابل فإن هناك 13% قرروا منذ الآن أنهم لن ينتخبوا السيسى مجددًا، بينما 21% سيحسمون قرارهم حسب المرشحين المنافسين، وهو ما يعطى زخمًا كبيرًا لأهمية فكرة التنافس وطرح البدائل فى الانتخابات المقبلة.. لكن الأخطر يظهر مع المقارنة بالاستطلاع السابق منذ أقل من ثلاثة أشهر، حيث كانت نسبة من قرروا انتخاب السيسى لدورة أخرى وقتها 81% بما يعنى أن هناك 15% قد تراجعوا عن هذا الرأى الآن.. وفى نفس السياق، ومع اقتراب نهاية عام الشباب -والحمد لله- يبدو رقمًا شديد الدلالة وليس بحاجة إلى تفسير أن 51% فقط من الشباب أقل من 30 سنة هم من بين المؤيدين لانتخاب السيسى لأربع سنوات أخرى، كما تبلغ هذه النسبة 53% فقط (مقارنة بنسبة 69% فى مايو الماضى) بين الحاصلين على تعليم جامعا. (3) إذا كان كل ما سبق يبدو شديد الأهمية فى قراءة دلالاته ومعانيه السياسية والاجتماعية، فهى كلها فيما يتعلق بالموقف من أداء السيسى وسياساته وبناء عليه احتمالات انتخابه مجددًا، لكن يبقى كذلك من المهم النظر إلى الموقف من مشروع تفريعة قناة السويس، الذى شارك المصريين بأكثر من 60 مليار فى تمويله، وجرى الترويج له باعتباره (قناة سويس جديدة) والتهويل من حجم عوائدها والخلط بين الأرقام والتلاعب بها، وحتى الآن ما زلنا نرى هذا المنهج، الذى تبدو انعكاساته واضحة من حيث نتائج هذا الاستطلاع الذى رغم اعتبار هذا المشروع هو السبب الأول والأهم من أسباب تأييد الموافقين على أداء السيسى بنسبة 32%، فإنه عند السؤال حول تأثير التفريعة على مصر بعد عام واحد من افتتاحها، فإن 43% يرون آثارها إيجابية، بينما 39% يرون أنه لم يكن لها تأثير إيجابى، و18% لم يستطيعوا التحديد، وهذا التقارب الكبير فى النسب يكشف بوضوح عن نتائج محاولات التهويل والتسويق الكاذب لإنجازات لم تتحقق ولم يشعر بها المواطن، حتى وإن كان مؤيدًا وداعمًا للمشروعات الكبرى. ربما لا رهان لدينا على أن هناك فى هذه السلطة من يدرس ويستوعب ويعى ويتعلم من الدلالات العديدة فى الواقع السياسى والاجتماعى فى مصر، لكن المؤكد أن صدور مثل هذه النتائج فى استطلاع رأى من مركز لا يمكن اعتباره معارضًا ولا مغرضًا ضد السلطة ولا متآمرًا على مصر ولا خلية إخوانية نائمة، أمر يستحق التوقف أمامه ولو قليلا من هؤلاء الذين يحدثوننا عن قدرتهم على اتخاذ القرارات الصعبة دون تردد اعتمادًا على شعبيتهم الطاغية التى لا يلحظون تراجعها الكبير وتسارعها الخطير. (4) أهمية نتائج هذا الاستطلاع بغض النظر عن مدى دقتها، فرأينا قد يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك من حيث تزايد نسب المعارضة والرفض أو فى الحد الأدنى التحول عن التأييد للسيسى وسياساته، ليست فى تلك الأرقام والنسب والدلالات، وإنما بالأساس فى أنها تأتى لتؤكد أن هناك واجبًا مستحقا وضروريا على القوى الوطنية الديمقراطية، ونقصد هنا تحديدا القوى المؤمنة بثورة يناير وقيمها والتى لا ترى الحل لا فى عودة الدولة المستبدة الأمنية ولا فى التحالف مع الجماعات الدينية المتطرفة، والتى تراهن فقط على قدرتها على بناء نفسها وإعادة تواصلها مع الجمهور العام، وممن لديها القدرة على بلورة بدائل حقيقية سواء من حيث البرامج أو الأشخاص، وهذه القوى تبدو أوسع من الأحزاب السياسية والحركات الشبابية، بل تمتد لقطاعات وقوى اجتماعية أوسع، وأجيال جديدة رغم كل إحباطاتها لا تزال قادرة على رفع راية الأمل والحلم، هؤلاء تحديدا هم من نقصدهم بالحديث عن واجب المرحلة المقبلة، وهو الاستعداد للانتخابات الرئاسية فى 2018، ورغم أن الحديث ليس جديدا بل تكرر فى مقالات عديدة منذ بضعة شهور، ثم تطور إلى طرح فكرة البديل المدنى بأفق تنظيمى حزبى وجبهوى وشبكى، وبعدها جاءت مبادرة مجموعات من المنتمين لما يمكن تسميته التيار المدنى الديمقراطى بعمومه لطرح فكرة اختار رئيسك 2018، ثم بعد ذلك مبادرة الدكتور عصام حجى التى طرح فيها فكرة الفريق الرئاسى، وهى كلها مبادرات رغم تنوع من طرحوها وخلفياتهم، ورغم أن أيا منها لم يحقق الاختراق اللازم مجتمعيًّا وشعبيًّا بعد، كما أن بعضها وعلى وجه التحديد مبادرة حجى لا يزال يحيط بها الكثير من علامات الاستفهام والغموض، إلا أن كل هذه الاجتهادات والمحاولات تبدو مؤشرًا مهمًّا على أهمية معركة 2018 المقبلة، التى يبدو الاستعداد لها من الآن أمرًا واجبًا وجادًّا، لكنه فى الحقيقة يحتاج إلى المزيد من وضوح الرؤى، وبلورة التصورات العملية والخطط الزمنية كى لا نجد أنفسنا أمام مهام مؤجلة للحظات الأخيرة، كما أنه واجب له ما يلزمه قبل المعركة الأساسية ولا أقول الأخيرة، وأهمها هو تحديد خريطة الحلفاء المستهدفين التى بالتأكيد لا تشمل لا قوى النظام القديم بكل صوره وتجلياته، ولا قوى التيارات الدينية بتعدد وتنوع أشكالها من أقصى التطرف إلى ادعاء الاعتدال، كذلك تحديد خريطة الجمهور المستهدف الذى لا ينبغى أن يغرق فى التصورات النظرية المثالية عن طبيعة الجمهور فى المجتمع المصرى الذى تعرضت تركيبته الاجتماعية وفئاته وطبقاته لتغيرات كبرى فى العقود والسنوات الأخيرة لا بد من الانتباه لها وإدراكها، فضلا عن عدم الإغراق فى النظرية المتعلقة بالبرامج وحدها والابتعاد عن طرح الأسماء التى يمكنها خوض مثل هذا الاستحقاق، فمع كل أهمية البرامج والدراسات والحلول التى تعانى بالفعل قوى التيار المدنى الديمقراطى من نقص فيها، لا من حيث وجودها وإنما من حيث تجميعها وتنظيمها فى إطار رؤية والتسويق لها، لكن مع كل ذلك يبقى فما يتعلق بمعركة سياسية وانتخابية الاسم الذى سيعبر عن ذلك البرنامج وتلك الرؤية ويصبح رمزًا لمعركة تستهدف جذب جمهور وبناء كتل منظمة، أمرًا شديد الأهمية، خاصة أن هذه معركة لا تقتصر فقط على أن يكون الاسم المرشح هو أفضل من يعبر عن البرنامج فحسب، بل تحتاج إلى عدة معايير أخرى متداخلة ومركبة.. ومع هذا وذلك فإنه يبقى ضرورة تحديد المستهدف من معركة 2018، التى قد لا يبدو الحديث عن كسبها ملائما فى اللحظة الراهنة وإن كانت مثل تلك الحسابات قد تبدو مؤجلة للحظات أقرب للاستحقاق الانتخابى نفسه وما يرتبط به من تغيرات وتطورات، لكن دون أن يكون هناك استهداف واضح بناء كتلة سياسية اجتماعية منظمة من مثل هذه المعارك، أيا كان شكلها التنظيمى، فإننا سنظل محلك سر فى دائرة لا تنتهى من المعارك المجانية بلا عائد حقيقى مهما كان حجم الانتصارات المعنوية أو المادية فيها.. فالأهم هو بلورة كتلة منظمة ذات وزن وتأثير وامتداد مجتمعى حقيقى، لتعود قوى يناير المدنية الديمقراطية المنحازة للعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى طرفًا فى المعادلة التى غابت عنها على مدار العامين الماضيين.