هى ليست الزيارة الأولى لوفد كنسى رسمى إلى القدسالمحتلة فى غضون شهور قليلة للغاية، رغم إستمرار قرار المجمع المقدس الذى صدر فى عهد البابا شنودة منذ عام 1980 والذى لا يزال ساريا ولم يتم إلغائه حتى الآن، بمنع السفر إلى القدس .. وبعد ثلاث زيارات سابقة افتتحها البابا تواضروس بنفسه على رأس وفد كنسى للمشاركة فى تشييع الأنبا إبراهام فى نوفمبر الماضى، وهى الزيارة التى أثارت جدلا كبيرا وقتها ، ثم لحقها زيارة الأنبا رافائيل سكرتير المجمع المقدس فى ذكرى الأربعين لرحيل الأنبا إبراهام ، وبعدها شارك وفد كنسى بتكليف من البابا تواضروس فى الإحتفال بتولى الأنبا أنطونيوس مطرانية القدس فى مارس الماضى .. لكن الزيارة الحالية التى أعلن عنها مؤخرا، والتى بدأت خلال الأسبوع الجارى ، تبدو أخطر تلك الزيارات جميعا ، فهى الأولى منذ إعلان الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى عن دعوته إلى السلام الدافئ مع الكيان الصهيونى ، ثم أنها تأتى لاحقة مباشرة للقاء الأخير الذى جمع بين السيسى وتواضروس ووفد من قيادات الكنيسة ، وفضلا عن هذا وذاك فإن سبب الزيارة هو الداعى الأكبر لإعتبارها الأكثر أهمية ، فرغم أن ما أعلنته مطرانية القدس أن الزيارة تأتى فى إطار إحتفالية لتطييب أجساد القديس موريس والقديسة فيرنا ، إلا أن تصريحات مسئولى الكنيسة فى مصر وبيانها الرسمى جاءت لتكشف أن هدف الزيارة الفعلى هو بحث أزمة دير السلطان ، الذى كان الإستيلاء عليه من جانب الإحتلال الصهيونى وتسليمه إلى الكنيسة الأثيوبية سببا فى قرار منع زيارة القدس الذى صدر عام 1980. الزيارة إذا ورغم أنها كما قد يبدو من ظاهرها تخص شأن كنسى كما جرى التفسير والتبرير للزيارات الثلاثة السابقة ، ورغم أن الأعوام منذ 1980 وحتى نهايات العام الماضى لم تخلو بالتأكيد من شئون كنسية كانت قد تستدعى السفر من مسئولى الكنيسة إلا أن ذلك لم يحدث إلتزاما بقرار المجمع المقدس وإحتراما لموقف وطنى ظلت الكنيسة ثابتة عليه على مدار العقود الماضية ، خاصة فى ظل تصريحات سابقة للبابا شنودة ترفض التطبيع وتعلن أن المسيحيين المصريين لن يدخلوا إلى القدس إلا مع إخوتهم المسلمين بعد تحريرها ، متجاوزا حتى السبب المباشر الذى صدر بسببه القرار بمنع الزيارة إلى القدس ، من إحتلال دير السلطان ، ليصبح موقفا وطنيا عاما ، ورغم الخلافات من البعض حول مثل هذا القرار وحول سيطرة وهيمنة الكنيسة على حق الأقباط المصريين فى زيارة القدس والحج إلى مقدساتهم الدينية ، إلا أن الطابع الوطنى للقرار حظى دائما بمساحات واسعة من الدعم والتأييد والاحترام. وبينما تأتى الزيارة الحالية بهدف حل أزمة دير السلطان ، وبالتالى إذا جرى ذلك فعلا ، فقد يكون المطروح لاحقا هو إلغاء قرار المجمع المقدس عام 1980 ، وبالتالى التراجع عن موقف الكنيسة السابق الذى جرى التعامل معه دائما بإعتباره جزءا من الموقف الوطنى والشعبى العام الرافض للتطبيع ، وهو ما يفتح الباب واسعا لمزيد من آفاق وخطوات عملية السلام الدافئ ، ومن هنا فقد لا يمكن إستبعاد أن يتم الوصول لتسوية بالفعل لأزمة الدير ، خاصة فى ظل تصريحات حول وجود تنسيق سابق بخصوص هذه الزيارة مع الكنيسة الأثيوبية ، وفى ظل الحديث كذلك عن لقاءات ستجمع الوفد الكنسى مع مسئوليين إسرائيليين لبحث هذه المشكلة .. فضلا عن العلاقات المصرية الإسرائيلية المتطورة والمتزايدة خلال السنوات والشهور الأخيرة بما يفتح أفقا بالفعل لإمكانية حل هذه المسألة ، وهى التى ربما لا تكون قد غابت عن زيارة نتنياهو الأخيرة لأثيوبيا وعن لقاء السيسى الأخير مع ديسالين وكذلك زيارة سامح شكرى لنتنياهو ، فالمسألة من هذه الزاوية ليست فقط مجرد مسألة دينية وكنسية ، بل هى فى الحقيقة ستستخدم بشكل واضح فى إعتبارها خطوة جديدة على مسار تطبيع السلام الدافئ ، بل وربما يسوق لها بإعتبارها تنازلا إسرائيليا وأثيوبيا لصالح مصر. السؤال هنا إذن لا يتعلق فقط بالمسائل الدينية والكنسية المسيحية ، بل كذلك بقضية العلاقات المصرية الإسرائيلية من الزاوية الوطنية وموقف الكنيسة منها ، والذى يبدو أنه يشهد تغيرا ملحوظا يمتد للقاء رسمى بين وفد كنسى ومسئولين إسرائيليين ، وهو فضلا عن ذلك يطرح كذلك تساؤلات حول إذا ما كان اللقاء الأخير بين السيسى والبابا تواضروس قد ناقش هذه المسألة بإعتبارها مطلبا للسلطة الحاكمة من الكنيسة المصرية ، خاصة أن ما قيل أن اللقاء لم يشمل حديثا عن الحوادث الطائفية الأخيرة رغم تحذيرات شديدة اللهجة على لسان البابا قبل هذا اللقاء بأيام ، وهو ما كان متصورا معه أن اللقاء سيناقش هذا الأمر بالأساس ، وصحيح أن ما أعقب اللقاء من الإعلان عن إنفراجة مفاجئة فى أزمة قانون بناء الكنائس الذى لم نكن نعرف حقيقة ما هى أزمته كما لم نعرف ما هى أسباب الإنفراجة ، اللهم إلا توجيهات السيد الرئيس التى ينتظرها أى مسئول قبل أن يخطو خطوة واحدة ، وهو ما يشير إلى أن القانون كان القضية الرئيسية التى جرى بحثها خلال اللقاء ، لكن يبدو أيضا أنه ربما لا يكون الأمر الوحيد الذى شهد نقاشا وإتفاقا خلال هذا الإجتماع ، وبالذات بعد الإعلان عن توقيع الكنائس على مشروع قانون بناء الكنائس فعلا ، والذى أصبح فى طريقه قريبا للعرض على مجلس الوزراء ومنه إلى مجلس النواب .. فهل يمكن أن نتصور أن خطوات إصدار القانون كانت معلقة على لعب دور للكنيسة فى التنازل عن موقفها من التطبيع ؟ وهل يمكن أيضا أن يكون ملف التفاوض بين الكنيسة المصرية والأثيوبية حول دير السلطان وملكيته له علاقة ولو غير مباشرة بما يجرى بين الدولتين بخصوص سد النهضة ، وبحضور إسرائيلى مؤكد فى القضية الأولى ، وهو حضور ملموس كذلك فى القضية الثانية حتى وإن نفت مصر طلبها الوساطة فيما يتعلق بسد النهضة؟!