ليست هناك واقعة أدل ولا أوضح على حجم النفوذ السعودى فى العصر الراهن مما جرى بقبول الأممالمتحدة، بالتراجع عن موقفها بحذف التحالف العربى والسعودية من القائمة السوداء لانتهاك حقوق الأطفال، على خلفية العمليات العسكرية التى تقودها السعودية فى اليمن منذ أكثر من عام. الأممالمتحدة التى كانت قد اتهمت السعودية بالمسئولية عن قتل 60% من مجمل الأطفال القتلى فى حرب اليمن، تراجعت بعد يومين فقط من قرارها، بعد الاحتجاج السعودى شديد اللهجة، والتهديد بوقف تمويل العديد من برامج الأممالمتحدة، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون، لاتخاذ القرار الذى وصفه بالأصعب على الإطلاق، والذى فسره بأنه إجراء مؤقت، بينما يقول مسئولون سعوديون إنه رفع نهائى لاسم بلدهم والتحالف الذى تقوده من هذه القائمة. ورغم النفى السعودى لممارسة أى ضغوط على الأممالمتحدة، فإن الأمر يبدو أكثر جلاءً من تصديق أية تصريحات، وصحيح أن بان كى مون أشار إلى أن وقف التمويل جاء من عدة دول دون تحديد، لكن يبدو سهلا توقع هذه الدول التى لا يمكن إلا أن تكون السعودية نفسها على رأسها. وبغض النظر عن دقة المعلومات التى استندت إليها الأممالمتحدة فى تقريرها الذى أدى لمثل هذا الإجراء، إلا أن حجم الجرائم التى ارتكبت والضحايا الذين سقطوا فى حرب اليمن من الأطفال وغيرهم، صارت بحاجة لوقفة جادة ومراجعة حقيقية مقارنة بالحصاد الذى تحقق لليمن، وهو ما يثبت مجددا خطيئة تلك الحرب التى لم تؤدّ إلا للمزيد من الدمار فى اليمن، ولم تنجح القوة العسكرية فيها فى حسم أى إنجاز سياسى حقيقى فى ظل استمرار تعثر المفاوضات التى تشرف عليها الأممالمتحدة حتى الآن. الجديد هنا ليس موقف الأممالمتحدة، فجميعنا نعلم ضعفها وعجزها وفشلها كمنظومة مستقلة وقادرة على فرض قراراتها، ورغم أنها سابقة تكاد تكون الأولى من نوعها، فإن الجديد والمقلق هو تزايد وتصاعد المنهج السعودى، والذى يستخدم القوة العسكرية دون رادع، ويفرض النفوذ بأدواته المالية، وهو ما يؤشر على مخاطر عديدة تحدق بالمنطقة وبالعالم كله خلال السنوات المقبلة، خاصة فى ظل صعود أسهم ولىّ ولى العهد الحالى محمد بن سلمان الذى يبدو متحكما لدرجة كبيرة فى القرار السياسى والعسكرى السعودى، وليس بعيدا هنا التذكير مجددا بالأزمة التى نشبت مؤخرا ولا يزال منتظرا المزيد من تداعياتها بين السعودية والولاياتالمتحدةالأمريكية، عقب طرح مشروع قانون يسمح لمن نجوا من أحداث 11 سبتمبر فى الولاياتالمتحدة بإقامة دعاوى قضائية لمطالبة الحكومة السعودية بتعويضات إذا ثبت تورط سعوديين فى هذه الهجمات، وهو التشريع الذى أقره بالفعل مجلس الشيوخ الأمريكى، وأثار عاصفة من الغضب السعودى، وصل إلى درجة التهديد الرسمى من وزير الخارجية السعودى عادل الجبير ببيع سندات أمريكية وأصول سعودية فى الولاياتالمتحدة يصل حجمها إلى نحو 750 مليار دولار، فى إشارة واضحة لاستخدام السعودية لثرواتها ونفوذها المالى والاقتصادى للتحكم فى القرار السياسى فى مختلف دول العالم. ربما فى هذا السياق يبدو أكثر وضوحا الآن مخاوف الكثير من المحللين والخبراء السياسيين فى مصر من طبيعة العلاقات بين مصر والسعودية، فى ظل ما هو معروف من استخدام السعودية لأدواتها المالية والاقتصادية بهذا الشكل لفرض إرادتها، وهو أمر تكرر كذلك فى موقف السعودية بوقف معونات مالية للجيش اللبنانى على خلفية أزمة سابقة قريبة بسبب عدم إدانة الخارجية اللبنانية رسميا الاعتداءات التى وقعت منذ أشهر قليلة ضد السفارة السعودية فى طهران، وهو ما اعتبرته السعودية من جانبها تخليا من الحكومة اللبنانية عن دعمها الواجب ورجعت ذلك لما سمته مصادرة حزب الله لإرادة الدولة اللبنانية، وقررت -بناءً عليه- وقف مساعداتها لتسليح الجيش اللبنانى وقوى الأمن الداخلى والتى تقدر بقيمة 4 مليارات دولار سنويا. ومن هنا فإن القلق من تكرار مثل ذلك المنهج فى العلاقات المصرية السعودية، وإخضاع مصر فى بعض المواقف إلى ما لا يستجيب لمصالحها ورؤيتها يبدو قلقا مشروعا تماما، خاصة فى ظل الاستثمارات السعودية فى مصر والتى تمتد لغيرها من الاستثمارات الخليجية، فضلًا عن المنح والدعم المالى المتواصل بدرجة كبيرة منذ ما بعد 30 يونيو. وإذا كنا قد شكرنا ووجهنا التحية للسعودية ودول الخليج مرارا على دعمهم ومساندتهم، ورد الجميل التاريخى لمصر التى لطالما ساعدت وساندت ودعمت، إلا أن ذلك لا يمكن أن يعنى فى أى لحظة القبول بأن يكون ذلك مقابل تطويع الإرادة المصرية وقرارها السياسى لمصالح غيرنا حتى وإن كانوا أشقاء، خاصة فى ظل ذلك الشطط الذى نراه فى بعض السياسات السعودية الراهنة، وخاصة أن هذا الدعم الاقتصادى والمالى الذى قدمته السعودية والخليج لم يكن فقط من أجل سواد عيون مصر، وإنما كذلك لأن من مصلحة هذه الدول ومصلحة المنطقة والإقليم بشكل عام أن تبقى مصر قوية وقائمة وقادرة وألا تتعرض لاضطرابات سياسية واقتصادية جديدة وبالذات فى مرحلة ما بعد إسقاط حكم الإخوان الذى كان قد بدأ يمثل تهديدا لهذه الدول أيضا. بالتأكيد من حق السعودية كدولة أن تسعى لتسييد رؤيتها وضمان مصالحها، وبالتأكيد فإن القوة الاقتصادية والمالية هى إحدى أدوات التأثير والنفوذ لكل دول العالم، لكن ما يستحق التوقف أمامه هنا هو أن يمتزج هذا النفوذ المالى بتمدد عسكرى وبرؤية دينية متطرفة، وبالكثير من دلالات وإشارات دعم تنظيمات وقوى متطرفة فى الكثير من دول العالم، وتأجيج الصراعات فى عديد من دول المنطقة، ثم فضلا عن كل هذا، تصوُّر أن النفوذ والتأثير المالى يمكنه وحده أن يصنع مكانة وقيمة، وأن يستخدم بهذه الطريقة الفجة مع الحلفاء ومع الخصوم على حد سواء، وهذه فى الحقيقة طريقة فى إدارة الأمور مهما بدا لها من تأثيرات فإنها تعبر عن ضعف وخواء وعدم امتلاك لأى مقدرة على الإقناع ولا التأثير بأدوات القوى الناعمة، بما يدفع مباشرة لاستخدام أدوات المال والسلاح، وهو ما يعبر عن غياب مشروع وتصور حقيقى لدى من يحكمون السعودية أو من يتصورون أن هذا منهج يصلح لقيادة المنطقة، وهو فى الحقيقة يجرها لمزيد من الصراعات والحروب التى لا تنتهى ولا تتوقف، ومزيد من الخسائر لكل الأطراف وأولهم حكام السعودية أنفسهم. لكن يبقى السؤال الحاكم، حول أسباب ترك كل هذا الفراغ فى قيادة المنطقة والأمة لسنوات طالت، ليتحول الصراع عليها من قيادة تعبر عن مشروع قومى عربى، إلى مشروعات أخرى، إما على أسس طائفية ومذهبية، أو على أسس قومية غير عربية تسعى لإحكام قبضتها على أذرع وأدوات نفوذ فى المنطقة للتحكم فيها وبسط هيمنتها ومشروعها، والحقيقة أنه لا يستطيع أحد أن يلوم هؤلاء ولا أولئك، بل نلوم أنفسنا أولا لأننا سمحنا باستمرار هذا الفراغ وسمحنا بتهميش أدوارنا ومكانتنا وقدراتنا إلى الحد الذى جعلنا نقبل بأن نبحث عن مجرد شراكة نتنازل فيها طوعا عن القيادة والريادة، وأن تصبح السعودية هى الشقيق الأكبر وتصبح إسرائيل فى مقام الحليف الموعود بالسلام الدافئ، بينما يتحول العداء والخصومة تدريجيا تجاه إيران.