"حركة ضعيفة ومطاردة يتوجس منها الجميع، إلى جانب كونها قد فشلت فى اختياراتها وفى إدارتها للحكم، هكذا يفكر العديد من قادة حركة النهضة فى تونس وفى مقدمتهم راشد الغنوشى، الذى يعتقد أنه ليس من المنطقى أن يبقى على حركته فوق مركب يغرق، وما حصل فى تونس مرشح لكى يتكرر فى دول أخرى، فباخرة التنظيم الدولى لم تعد صالحة للركوب "هكذا وصف صلاح الدين الجورشى قرار حركة النهضة بالتحول إلى حزب مدنى، وتوديع الارتباط بالإسلام السياسى الذى اعتبره الغنوشى مرحلة فى تاريخ الحركة، انتهت معه حالة الاحتجاج لحساب حالة المشاركة السياسية فى الحكم عبر حزب مدنى يستوعب تركيبة وتطور المجتمع التونسى. البعض حاجج بأن قرار النهضة لا يعنى فك الارتباط بالتنظيم الدولى، كصيغة تنظيمية أو حتى رابطة فكرية تربط فروع الجماعة حول العالم، خصوصًا أن الجماعة ظلت تردد وتفتخر بأن فروعها حول العالم تصل إلى 88 فرعًا أو 79 فرعًا على أشهر الروايات، وأن قرار النهضة هو محاولة فقط لتفادى ما جرى للإخوان فى مصر، خصوصًا مع قيود دستورية وقانونية تجعل الحركة فى مرمى الحظر بالقانون، ومن ثم فقد لجأت لهذا الانسحاب التكتيكى مؤقتًا قبل أن تظهر بشكلها القديم عندما تتغير الظروف محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا. يدحض تلك الشكوك ما ورد على لسان اثنين من أعضاء التنظيم الدولى ومنظريه، الأول عزام التميمى رئيس قناة الحوار اللندنية وهى لسان حال الإخوان فى أوروبا، الذى أبدى اندهاشه من موقف النهضة وزعيمها، الذى تربطه به صداقة طويلة، بالقول إن تصريحات بعض قادة حركة النهضة تفيد التبرؤ من جماعة الإخوان المسلمين، كما لو كانت كائنًا يحمل جرثومة قاتلة يخشى الناس على حياتهم من انتقالها إليهم، لدرجة أن أخوينا ذهبا دون ضرورة على الإطلاق وفى مخالفة صريحة لحقيقة التاريخ، ينفيان نفيًا قاطعًا أن حركة النهضة كانت فى يوم من الأيام تنتمى إلى الإخوان المسلمين، مذكرًا بأن الإخوان كانوا لأعضاء النهضة عونًا فى أحلك الظروف وأشدها متسائلاً "ما الذى يجرى يا إخواننا فى حركة النهضة؟ هل تراه تحديًا للسلطة بعد العودة من المنافى؟ هل تراه همس الهامسين فى آذان بعضكم فى منتديات تعقد هنا وهناك أن غيروا قبل أن تتغيروا وبدلوا قبل أن تستبدلوا، هل هى صدمة الانقلاب على الإخوان فى مصر؟ هل هو صراع من أجل البقاء بأى ثمن وبأى شكل؟ وما قيمة البقاء إذا تخلى الإنسان عن أعز ما يملك؟". أما الثانى بشير نافع، وهو من أهم منظرى الإخوان أيضًا، فقد وصف ما حدث بأنه "انعطافة أخرى" لحركة النهضة التى اعتبر أنها كانت "دائمًا إحدى قوى الإخوان المسلمين والتيار الإسلامى السياسى، وليس ثمة شك أن الحركة ساهمت فى الجدل الفكرى والسياسى داخل الجسم العام للإخوان؛ وكان لها، على الأقل فى مناسبة واحدة، دور إيجابى فى تحولات وتطور رؤية الجماعة، مثل بيانى منتصف التسعينيات التاريخيين حول مسألة المرأة والنهج الديمقراطى والتداول السلمى على السلطة. وأكد أنه "ليس ثمة ما يدفع إلى الخجل، أو يستدعى الإدانة". وفى محاولة منه لنسف مبررات قيادة حركة النهضة لهذه الانعطافة، ذكر أن "الخصوصية المغاربية ليست فى الواقع سوى أسطورة مصطنعة، وأن النهضة، كما بعض المثقفين المغاربة، باتت تصدق ما يبدو أنها ساهمت فى اصطناعه. أما التفسير الآخر فيقول إن النهضة التى خشيت عواقب اندلاع الثورة المضادة في صيف 2013، تختار طريق السلامة. الحركات السياسية هى، بالطبع، كائنات حية، وبعض الخشية والتحسس أحيانًا ليس بالأمر السيئ. ولكن الخشية والتحسس لا يجب أن يؤديا بحركة سياسية، ذات تاريخ طويل من النضال والتضحيات، إلى الارتباك والتسرع". إذن اتهامات بنكران الجميل، ومحاولة تفادى مصير الجماعة فى مصر، والارتباك والتسرع كانت هى ردة فعل بعض منظرى وقيادات التنظيم الدولى، التى يبدو أنها كانت تعول كثيرًا على بقاء الغنوشى وحركته ضمن التنظيم الدولى لتعويض غياب مصر، والإبقاء على تلك الصبغة الدولية للحركة وما تتيحه من علاقات وتمويل. النهضة بدورها وعبر تصريحات قيادتها كانت واضحة فى قطع تلك الصلة، ولعل من أوضح تلك التصريحات هو تصريح الغنوشى لصحيفة "لوموند" الفرنسية، الذى أكد فيه أن "النهضة حزب سياسى، ديمقراطى ومدنى له مرجعية قيم حضارية مُسْلمة وحداثية (...) نحن نتجه نحو حزب يختص فقط فى الأنشطة السياسية". مضيفًا: "نخرج من الإسلام السياسى لندخل فى الديمقراطية المُسْلمة، نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نعرّف أنفسنا بأننا (جزء من) الإسلام السياسى"، تمضى التجربة التونسية لتخرج من أسوار جماعة الإخوان وجدران التسلط واللا مؤسسية والانفصال عن الواقع، والصف الذى بات أقرب إلى جمهور الشيعة الذى ينتظر عودة الإمام الغائب دون أن يحسن حتى اختيار الولى الفقيه. بدت فكرة فصل الدعوى عن السياسى التى طرحها وأرساها الغنوشى، وحاول بعض القيادات الإخوانية المحسوبة قديمًا على فريق الإصلاحيين التماهى معها والعزف على أنغامها، فكرة مبتذلة فى واقع الإخوان فى مصر الذين تفاعلوا مع دعوة فصل الحزبى عن الدعوى على طريقتهم، فسارع عزت بتعيين اثنين من رجاله متحدثين رسميين عن "الحرية والعدالة" فى الخارج. التنظيميون لايعرفون سوى رص الصفوف فى مواجهة رص الأفكار، لكن الأفكار التى كان الغنوشى أحد منصات إطلاقها فى الجماعة التى تخلو من المفكرين قادت جماعته للخروج من التنظيم الدولى، وهو ما يهدم ثابتًا من الثوابت التى قامت عليها الجماعة إلى جانب الشمولية، وهو محور العالمية الذى يبدو أن الغنوشى قد دق فى نعشه أول مسمار.