كانت المرحلة كلها مضطربة، سقط اليقينُ وضرب الشكُ جذوره في أعماق الأعماق، تهاوت السرديات الكبرى، وأطاحت الحرب العظمى بالمعنى وبالجدوى، وهو ما ألقى بظلاله على الفكر والأدب والفن. كانت أوروبا تشهد مرحلة تغيير جذري في الفنون الجميلة، وبالأخص المذهب الراديكالي الذي سخِر من كل القيم المعترف بها، وكان الفنانون والأدباء هم من قادوا مسيرة التحطيم والتغيير مثل "لوبيل بونويل" و"غارسيا لوركا" و"بدرو جارفياس" و"يوجينو مونتير". ظهرت الأعمال الفنية التي صدمت المشاهد بموضوعها وتشكيلاتها وغرابتها، التي وصلت إلى حد اللامعقول والاضطراب النفسى. وفي باريس كتب الشاعر والطبيب النفسي أندريه بريتون في عام 1924 "البيان الأول"، الذي يعتبر بمثابة الرسالة التأسيسية للسريالية، وقد وضع مصطلح السريالية "surrealism" الشاعر غويوم أبولينير عام 1917، وهو مؤلف من كلمتين (sur) وتعني ما فوق، و(realism) وتعني الواقعية أي ما فوق الواقعية. وأصبحت السيريالية مذهبًا أدبيًا وفنيًا وفكريًا يريد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، ويزعم أن فوق هذا الواقع واقعًا آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعًا، وهو واقع اللا وعي أو اللا شعور، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية، ويجب تحريره وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وسعت السيريالية إلى إدخال مضامين غير مستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية، وهذه المضامين تستمد من الأحلام سواء في اليقظة أو المنام، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، فهي اتجاه يهدف إلى إبراز التناقض في حياتنا أكثر من اهتمامه بالتأليف. واعتمدت السيريالية على نظريات فرويد في تفسير الأحلام، فجاءت اللوحات السيريالية تلقائية على المستوى الفني والنفسية، تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللا شعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام. واعتمد فنانو السيريالية في تصويرهم على طريقتين، الأولى هي الأسلوب الذي ابتكره سلفادور دالي، ويعتمد على ما يسمى ب "الهذيان الناقد" الذي يستخدم فيه رموز الأحلام ليرتفع بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي، لكن مع التجسيم الطبيعي لها، والثانية هو الأسلوب التكعيبي المسطح ذا البعدين، وهي أقرب إلى الأشكال التجريدية، وإن كانت تختلف عنها في أن السيريالية لا تهتم بالشكل ولا بالصور ولا بالهندسة مثلما يفعل التجريديون. في هذا الوقت ظهر رجل ذو نظرة جنونية عميقة وشاربين معقوفين، تمكن من إلغاء الحدود بين الروح المشاكسة الهائجة والاستعراضية الفاضحة، وهو سلفادور دالي، والذي ولد في 11 مايو عام 1904. وعندما قال دالي عن نفسه حين قرر بريتون فصله من الحركة السيريالية لاتهامه بالولع الشديد بالمال، "ليس بإمكانك طردي، فالسريالية هي أنا" لم يكن يبالغ حيث كانت حياته الغريبة وشخصيته المضطربة وأفكاره غير المألوفة ولوحاته المفاجئة هي السريالية فعلًا. وبدا فن دالي تختلط فيه العبقرية بالجنون، وظل مختلفًا واستثنائيًّا في جنون عظمته وفي نرجسيته الشديدة. ولد دالي في كاتالونيا بإسبانيا قرب الحدود الفرنسية، وعاش مرفهًا في أسرة ثرية، ونتيجة لدلاله المبالغ فيه عُرف عنه سلوكه الطائش، كدفعه صديقه عن حافة عالية كادت تقتله أو تعذيب قطة حتى الموت، ليجد في ذلك متعة كبيرة حتى حين يعذب نفسه ويرتمي على السلالم ويتدحرج أمام نظر الآخرين. دخل كلية الفنون الجميلة في "سان فيرناندو" في مدريد، وكان حريصًا على عدم الاختلاط بزملائه، وبدأ يتردد على متحف "برادو" حيث كان يمضي ساعات طويلة متسمرًا أمام لوحات المشاهير، وعندما يعود إلى الأكاديمية يرسم رسومًا تكعيبية للمواضيع التي شاهدها في هذه اللوحات. وبدأ يتعرف على الفن التكعيبي ولكنه ثار على المفاهيم التي يدعو إليها هذ الفن، واستبدل ألوان قوس قزح في لوحاته بالألوان الأبيض والأسود والأخضر الزيتوني والبني الداكن فكانت ألوانه حزينة. وذات مرة دخل إلى قاعة النحت في الأكاديمية وبدأ يفرغ محتويات أكياس عديدة من الجص في وعاء كبير ويصب فوق الجص ماء حتى غمر الماء أرضية القاعدة بطبقة من سائل أبيض منساب إلى خارج القاعة، حتى وصل السيل إلى قاعة الدخول وبدلًا من أن يهتم دالي بالأمر شق طريقه نحو المخرج يلتفت إلى الوراء لمشاهدة جمال الطبقة الجصية وهي تجف بسرعة. أصبح دالي يرتاد المقاهي الفنية ويشترك في النقاشات الفكرية الحامية حول الفن والأدب والنساء والجنس، ثم طرد من الأكاديمية ومنع من متابعة الدروس فيها لمدة سنة لدفاعه بحرارة عن أحد أساتذته اليساريين مما أثار غضب إدارة الأكاديمية. ودرس المستقبلية الإيطالية وبدأ يهتم بالمدرسة الميتافيزيقية ومبادئها التي وضعها كل من جيورجيو شبيريكو وكارلوكارا، وتعرف على المذاهب الفنية كافة والتقى فنانين عالميين مختلفين منهم الشاعر فيديريكو جارسيا لوركا، الذي أنجز معه عملًا مسرحيًّا كان الأول له. كما قرأ مؤلفات فلسفية مثل كتابات نيتشه، وصمم على توجيه اهتمامه الكامل إلى أعمال الفيلسوف ديكارت، الذي استند على أفكاره إلى رسم عده لوحات رائعة. وبعد أن تعرف على كتابات نيتشه، عمد إلى إطالة شاربه ليكون مثل شارب نيتشه، وظل محتفظًا بهذا الشارب إلى نهاية حياته. تعرف دالي على أب المدرسة التكعيبية بابلو بيكاسو، وبدأ ينظم لقاءات دورية مع رسامين سرياليين آخرين أمثال لويس أراجون وأندريه بريتون. لجأ دالي إلى تحقيق الشهرة فأيد حكم فرانكو في إسبانيا، وخلال فترة صعود الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا رسم العديد من اللوحات التي تظهر هتلر في أوضاع أنثوية، ما دفع بريتون لتأليف كلمة "avida Dollars" من حروف اسم دالي أي جشع الدولارات، غير أن دالي لم يتأخر في الرد، حيث قال له "ليس بإمكانك طردي، فالسريالية هي أنا"!!. كتب دالي سيناريو فيلم "كلب أندلسي" وهو مزيج حلمي غريب، والمشاهد والأفكار لا يمكنها أن تثير أي تفسير عقلاني ومن الطريف أنه لايوجد في الفيلم أي كلب أو أندلس. وعاش في أمريكا منذ عام 1940، وهناك قام بتصميم العديد من خشبات المسارح، بل واتفق مع المخرج والت ديزني على مشروع فيلم "ديستينو" ولم يتم إنجاز ذلك إلا عام 2003. قام دالي برحلة إلى إيطاليا ووجد روما الكاثوليكية وقد دمرتها التجديدات الحديثة، وآمن بالمراتب الكهنوتية الكاثوليكية وبالنظم الملكية، وقد طلب في أحد الأيام الحصول على موافقة البابا لرسم إحدى لوحاته، كما أعلن بوضوح أن آماله في المستقبل هي الدعوة إلى نهضة دينية جديدة على أساس مبادي كاثوليكية متطورة. وفي عام 1984 احترقت غرفته وهو فيها في ظروف مريبة ربما كانت محاولة انتحار، لكنه لم يمت وعاش 5 سنوات تالية، وقبل موته في 23 يناير عام 1989، أهدى كل ثروته ولوحاته للدولة الإسبانية، وجاءت كلماته الأخيرة ضمن أغرب ما قاله المشاهير قبل وفاتهم، حيث اختتم الحياة قائلًا: "أين ساعتي؟". ومن أشهر لوحات الفنان سلفادور دالي: