يحتاط أبو محمد علي بن حزم الأندلسي في سبب توفره على كتابة رسالته المعروفة بطوق الحمامة في الألفة والإلاف والمحبة، بما سمعه من القاضي حمام بن أحمد الذي حدثه عن يحيى بسند مرفوع لأبى الدرداء أنه قال: أجموا النفس بشيء من الباطل ليكون عونًا لها على الحق. والذي حدث أن ابن حزم قد ذاع صيته واشتهر بما كتبه وصنفه في رسالته تلك من حديث عميق وجميل عن "اللغو" و"الباطل"، لا بما صنفه في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والطب وغيرها من المعارف المختلفة. وكان ابن حزم من أكبر علماء الإسلام تأليفا، وكان مجددًا وموضحًا وشارحًا وباعثًا لمذهب الإمام داوود الأصبهاني الظاهري، بل ويعتبر ظاهريًا أكثر من داوود نفسه، ولعل ذلك يرجع إلى أسباب عديدة منها، الطريقة العميقة والجملية التي تناول بها ابن حزم موضوع الحب وأحوال القلب في كتابه هذا. وأنه كتبه وفقا لخبرته فيما أورد وحلل من وقائع عاينها بنفسه أو "صحت عنده بنقل الثقات". وأيضا بسبب طبيعة الموضوع نفسه عن أمور الحب وماهيته ودرجاته بما لها من شعبيية جارفة، وفي هذا الباب نذكر ما كتبه مولانا محيي الدين بن عربي في مقدمة ديوانه "ترجمان الأشواق" بأن كلَّ ما يذكره من أسماء ومديح وغزل في هذا الكتاب إنما هو إشارة إلى معان إلهية رفيعة. وقال-أيضا- في الفتوحات المكية أن ما يذكره في أشعاره، فيما يخص ترجمان الأشواق وغيره، فإنها كلها معارف إلهية في صور مختلفة من تشبيب ومديح وأسماء نساء وصفاتهن وأنهار وأماكن ونجوم. ولعله ذكر ذلك للتوضيح وإتقاء لهجوم من أخذوا عليه كتابته لمثل هذا النوع من الغزل الواضح والذى لا يستقيم والحديث عن الذات الإلهية. أما لماذا استعمل ألفاظ وأوصاف الغزل الواضح، فيشير إلى أنه أراد هذا لتتوفر الدواعى على الإصغاء إليها وتلك هي طبيعة الأمور. وفي هذا "اللغو" الطيب عن الحب والمحبة كتب ابن القيم الجوزية، وهو من تلاميذ ابن تيمية -وإن كان ابن تيمية أشد تعصبا- كتب ابن القيم كتابا بعنوان: "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، وفيما يبدو أنه تأثر بالطوق لابن حزم. وكثيرا ما أفكر كيف أن ابن القيم المتشدد كشيخه في كتابات مثل "زاد المعاد" و "الروح" هو نفسه ابن القيم المتسامح في "روضة المحبين" وفي "مدارج السالكين". يعرف ابن حزم الحب في رسالته بقوله: الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا محظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. ويقول أن الناس قد اختلفت في ماهية الحب، ورأيه أن الحب هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة. وشاهده من القرآن قوله تعالى "هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق لها زوجها ليسكن إليها" فيجعل علة السكون أنها منه، وشاهده أيضا قول الرسول: "أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف". أما ابن القيم فلا يقطع برأي في معنى الحب وإنما يورد كلام الناس فيه، ويذكر منه أن الحب هو الميل الدائم، بالقلب الهائم. وقيل هي حركة القلب على الدوام إلى المحبوب وسكونه عنده. وهو يفرق بين الحب وبين الهوى؛ فالهوى لفظ في أكثر ما يستخدم يكون في الحب المذموم. وقيل أنه سمى هوى لأنه يهوي بصاحبه. ولذلك فقد فتح ابن القيم رسالته تلك بتفضيل من كانت الدولة أو اليد العليا لديه للعقل لا للهوى. ونعود لابن حزم الذي يبين لنا أن مراتب الحب وأعلاها المحبة في الله، فيحب الإنسان لأجل التقوى مثلا أو القرابة؛ طاعة لله تعالى. وبعدها محبة الألفة والصداقة، وبعدها محبة العشق. ويفرق بين الحب الروحي والحب للشهوة، والأول لا يكون إلا لواحد، أما الحب الجسدي فقد يتعدد. وأن "للحب علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكيّ. فأولها إدمان النظر" والعلامات تكاد تتطابق لدى ابن القيم ومنها "إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه". وكلاهما يشدد على أن الحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره، فهو شعبة من الجنون. فكيف نعالج من إصابته لوثة الحب وكانت اليد العليا لديه للهوى وليس للعقل؟ لننتقل إلى مقام آخر تماما وفي حضرة عالم ثالث هو الشيخ الرئيس، أبو على الحسين بن عبد الله بن على بن سينا. فقد كتب مقال في كتابه "القانون في الطب" عن أمراض الرأس وفيه فصل عن مرض العشق أو لوثة الحب، ويعرفه بأنه مرض وسواسي شبيه بالمالنخوليا (Melancholy) وهي ما يمكن تعريفه بالمزاج السوداوي. ويقول ابن سينا أن هذا المرض يجلبه الإنسان لنفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل. ومن ضمن علامات هذا المرض أن يكون الإنسان كثير الصعداء ويتغير حاله إلى فرح وضحك، أو غم وبكاء عند سماع ألفاظ الغزل والحب، ولا سيما عند ذكر الهجر والنوى. ولا يكون لشمائله ولا لنبضه نظام، كأصحاب الهموم. وعلاج هذا الأمر يكون باشغالهم، أو يحتال بحب آخر مما تحله الشريعة يجُبُّ ما قبله، وإن كان العاشق المريض على شيء من العقل، فيكون علاجه النصيحة والعظة والاستهزاء به وتعنيفه إن لزم الأمر. وينصح ابن سينا لعلاج العشق بتسليط العجائز على العاشق المريض، بتبغيض المعشوق إليه، ويذكرن منه أحوالا قذرة وأمورا منفرة، ويذكرنه بالجفا؛ "فإن هذا يسكن كثيرا". وفي الختام فإني كتبت هذه المقالة من باب طرافة هذا المبحث وطرافة ما ذُكر فيه دون تزيد أو تسطيح، وفي ذهني ما ورد في الأثر بأن أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.