حلب.. 5 سنوات من حرب ودمار ودماء، قصفت فيها النفوس والبيوت، واستوطنها الموت، وهجر مواطنوها، واغتصبت حياة أهلها عنوة، فلم يعد للرحيل هيبته وجلاله، فمن تبقوا لا يلاقوا إلا الذل والمهانة، والوجع الصامت والصامد. 9 أيام متواصلة من القصف المستمر على رؤوس مواطني حلب، دون رحمة لصغارها، وصرخات نساءها، واستغاثات رجالها، ليكتفي العالم فقط بالمشاهدة والتعاطف، فالموت صار أمرًا اعتياديًا في سوريا، كجزء من نشرة أخبار يومية. حلب أكبر مدن سوريا مساحة، ودمار، وألما، شهدت أمس الجمعة أعنف غارات القصف عليها، فلأول مرة لا يؤذن للصلاة في سماء المدينة، وأغلقت الجوامع خوفا على المواطنين، فالحرب لا تعرف دينًا ولا رحمة، فكل مكان في حلب، كل بيت، ومحل، ومشفى، أو حتى مسجد مهدد بالقصف. "الصور" الوسيلة الوحيدة، لنقل ما يحدث داخل سوريا إلى العالم، المصورون والصحفيون هم الأبطال المجهولون الذين يقضون نهارهم تحت القصف، غير عابئين به، بهدف واحد وهو توثيق ونقل الحقيقة، فهم حلقة الوصل الوحيدة بين تلك البقعة الصغيرة والعالم. تواصلت "التحرير" مع أحد مصوري مدينة حلب "أبو الهدى الحلبي" وهو مصور صحفي ومدير المكتب الإعلامي بجمعية "القلوب الرحيمة" بسوريا، وحكى عن أصعب المشاهد المأساوية التي رآها في حلب. يبدأ أبو الهدى حديثه رغم أصوات القصف العالية، وضعف الاتصال، بحكي ما جرى أمس تحت سماء حلب، من غارات لا منطقية لم تشهدها المدينة من قبل، والتي بدأت في الثامنة ونصف صباحا، دون أي توقف، بعدد كبير من الأحياء، ومنها حي "الكلاسة" أكثر أحياء حلب تضررًا، فأكبر أسواقه شهد دمارًا شديدًا، ويقول بلغته السورية: "الشعب هون بحلب بيفيق ع القصف". مشاهد مروعة عاشها أبو الهدى خلال فترة الحرب، أصعبها كان بالأمس، موثقًا بالكاميرا لحظات لن ينساها، فيصف كيف أن الدم أصبح جزءًا من المشهد اليومي لحياتهم، قائلًا: "كل يوم في عنا كتير من هالمشاهد، المشكلة إن نحن اتعودنا، وما عاد يفرق معنا شيء"، ويضيف: "كان في أب وابنه يملكون سيارة خضار، القصف ضرب مكانهم ومات الولد وحيد أهله"، يتذكر أبو الهدى الموقف بأسى، مضيفا أنه لن ينسى أبدا منظر والده، قائلا: "الأب صار يضرب حاله واغمى عليه، فالحرب تقهر الرجال". صرخات ودموع طفلة صغيرة، فقدت للتو أمها وأختها، بعد مرور 4 أشهر فقط على استشهاد أبيها، التقطها أبو الهدى أمس في منطقة "بستان القصر"، حيث ألقى الطيران المروحي برميلين متفجرين على الحي، ويقول: "يعني بنت صارت بلا أم أو أب أو أخت أو أخ"، واصفا كيف أثّر فيه هذا الموقف رغم هول ما يراه يوميًا. 13 سيارة إسعاف، قُصف أغلبهم وتعطل الآخر، ليتبقى 5 سيارات، يتم توزيعهم على أماكن القصف، يحكي أبو الهدى، قائلا: "الأسبوع الماضي انقصفت سيارة ومات السائق"، مضيفا أنهم يحاولون إنقاذ المصابين بأسرع الطرق الممكنة، موضحًا: "وقت مانحس بالطيران نشغل سيارت الإسعاف ونضل نلحق الطيران منشان تعرف وين يضرب لننقذ الباقيين". "بطلع يوميًا 8 الصبح بودع زوجتي وأبنائي، لأنه جايز بكل لحظة أفقدهم أو يفقدوني"، يقولها أبو الهدى، مشيرا إلى أن صعوبة عمله لا تفرق عن أي مواطن عادي في حلب، "ما في هون أمان بأي مكان، وأكبر مثال أول أمس انقصف عنا مشفى مات كل اللي فيه تقريبا". يكمل أبو الهدى حديثه: "حلب تباد والله هو الحامي"، مشيرا إلى أنه كمصور لا يتخذ أي احتياطات أمنية، ويقول: "أمس كنت بمكان القصف وكنت بصور الحدث وفجأة رجع الطيران يضرب نفس المكان لكن الله حماني". "نحنا اتعودنا وعايشين، ويا أهلا بالموت"، يقولها أبو الهدى، فالاعتياد على الموت والدمار صار جزءًا من حياة أهل حلب، كما يحكي قائلا: "واقعنا كتير صعب، ماعنا بيت إلا ودخل عليه الموت والتشرد والذل والعذاب في الدنيا". وتعود الحياة لطبيعتها بعد القصف، كما يصف أبو الهدى، قائلًا: "بعد ما يتم قصف المكان بنص ساعة بيرجعوا العالم، اللي راحله أب وأخت وأم، بيدفنها ويرجع مكان عمله"، مضيفا أنهم يحاولون مداواة بعضهم البعض، فخلال خمس سنوات، أكثر من ثلثي سكان حلب غادروها، وتبقى حوالي 40 ألف مواطن، يقل عددهم كل يوم عما يسبقه، رافضين مغادرتها، "مو معقولة اللى خسر بيته وماله وأهله يترك ويمشى، لازم ناخد حقنا من المجرم" يقولها أبو الهدى بأسى. يحكي أبو الهدى أنه لم يفقد الأمل أبدًا في استعادة بلده، قائلا: "أنا اتسجنت أيام النظام ودوقت الذل والعار، كيف بعد كل هذا أتركها"، مضيفا: "العالم الباقية هون مثلي، إذا اتنازلنا عن قضيتنا، ليش بالأساس قمنا بالثورة". "نحن عايشين على أمل تخلص الحرب"، بهذه الكلمات يختتم أبو الهدى حديثه، مضيفا "الشعب عنده لسه أمل رغم كل شيء، هو بكل مكان وبكل لحظة، حتى لو خسرنا حالنا وعائلتنا، في ناس راح توقف وتشتغل مكاننا، هي شغلة بدها صبر، وإن الله مع الصابرين".