لم تنته بعدُ قضية جزيرتى تيران وصنافير، رغم الحسم الواضح من السلطة، لا لموقفها وقرارها النهائى فحسب الذى يبدو الآن قاطعا أنه لا مجال لمراجعته أو التراجع عنه من جانبها، بل أيضا فى رفضها القاطع لأى موقف معارض أو مختلف معها -فى هذه القضية وغيرها- واستخدام أدوات القمع الأمنى وسلسلة القوانين المقيدة، وعلى رأسها التظاهر فى معاقبة كل من يجرؤ على المعارضة أو يسعى لفتح أفق فى المجال العام لوسائل التعبير السلمى عن الرأى.. وربما نظرة سريعة لنتائج استطلاع الرأى الذى نشره "بصيرة" منذ أيام يؤكد بوضوح -رغم عدم اليقين فى مصداقية الاستطلاعات أو مدى تعبيرها الحقيقى والواسع عن الرأى العام خاصة فى ظل تجارب سابقة عديدة- أن هذه المعركة لم تنته بعد ولا تزال بها جولات وأشواط مقبلة قادمة، ثم إنها فتحت أبوابا واسعة كانت موصدة ومغلقة فى معارك وملفات أخرى على رأسها قضايا الديمقراطية والحريات وطبيعة السلطة الحاكمة والموقف منها. (1) كانت مظاهرات 15 أبريل هى المشهد الأول للاحتجاج الوطنى والجماهيرى وفى قلبه الشباب فى الشارع ضد التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير، وقد كانت مفاجأة فى الأرجح لأغلب المتابعين وكذلك للسلطة، لكنها فضلت عدم التورط بشكل واسع فى ممارسات عنيفة، رغم كل ما جرى فى اليوم، لكن ما جاء بعده كشف عن العين الحمراء للغولة، بحملة اعتقالات أمنية موسعة، وتحذيرات شديدة اللهجة لدعوات التظاهر يوم 25 أبريل، وقرارات ضبط وإحضار لعدد من الشباب والنشطاء، فضلا عما جرى فى اليوم نفسه من عنف أمنى كان هدفه الأول منع وتفريق أى تجمعات، حتى وإن كانت سلمية، ورغم نفى رئاسى مسبق لما نشر حول توجيهات بعدم تكرار مشهد (الإنذار الأول) يوم 15 أبريل. لكن ما جرى فى 25 أبريل ستكون له توابعه، فتزايد العداء والخصومة مع قطاعات شابة وبالذات الأعمار الأصغر سنا التى تفتّح وعيُها على ثورة يناير، فضلا عن الدخول فى صدام معلن مع الأحزاب السياسية وكذلك النقابات التى طال مقراتها الحصار والقبض على أعضاء بها، فضلا عن استمرار حملات التشويه والتضليل، التى وصلت للأسف ببعض المصريين البسطاء إلى استغلالهم فى مشهد موحٍ بالألم والغضب، لا منهم بقدر ما هو عليهم، نتيجة شعارات (مصر مش هتبقى سوريا والعراق) و(المؤامرة الكونية ضد مصر) و(الاسطفاف خلف مؤسسات الدولة)، وكلها فى الحقيقة شعارات حق استخدمت فى الترويج لباطل وترسيخه، فكانت النتيجة أن نتابع مشاهد فى 25 أبريل تحت شعار الاحتفال بعيد تحرير سيناء، بينما هى ترفع أعلام السعودية، وتوافق على التفريط فى أرض مصرية، بينما تتحدث عن حماية الوطن! (2) 30% من المصريين يرون الجزر مصرية، و31% لم يستطيعوا التوصل لقناعة نهائية بعد.. هذه أرقام من استطلاع "بصيرة"، الذى لا نراهن تماما على دقتها، لكنها تعطى مؤشرا شديد الأهمية أن هذه المعركة لم تحسم، رغم كل العنف والترهيب والتشويه من جانب السلطة وقبضتها الأمنية.. ثم إن النسبة ترتفع إلى 38% بين الشباب أقل من 30 سنة فى هذا الاستطلاع، وبالتالى نحن أمام دلالتين شديدتى الأهمية.. الأولى أن هناك كتلة كبيرة تصل إلى ما يقترب من ثلث المصريين، متمسكون بحق وطنهم فى أرض الجزيرتين، وبالتالى فكل أساليب العنف والقمع لن تقنع هؤلاء بتغيير رأيهم بهذه الطريقة أبدًا، ربما تقلق بعضهم من النزول للاحتجاج أو التظاهر أو غيرها من أدوات التعبير، لكن قناعتهم ستظل كما هى، ورأيهم فى السلطة سيبنى على موقفه من هذه القضية وأسلوب تعاملها معها وإدارتها لها، فضلا عن مجمل سياساتها ومواقفها الأخرى، وبالإضافة إلى هؤلاء فهناك نسبة أخرى مقاربة أو أكبر قليلا لم تحسم رأيها بعد، وهى كتلة يمكن الرهان على العمل معها وإقناعها بالحجة والعقل والمنطق، وبالوثائق والمستندات، وبالاعتبارات الوطنية والسياسية، بل وبمصالح مصر وأمنها القومى.. لكن هذا عمل يحتاج لتكتيكات متعددة ومتجددة لا تقتصر على الاحتجاج والتظاهر، لكنها أيضا تفتح مساحات واسعة للحركة والعمل الشعبى، واستعادة ثقة الشارع فى القوى السياسية والحركات الشبابية، وقبل ذلك ومعه تجسير الفجوات بين تلك القوى بتنوعها وباختلاف أطرافها من أحزاب وحركات ومنظمات وشخصيات ونشطاء وغيرهم.. وبالتأكيد مفهوم ضمنًا، ألا تتورط تلك القوى المقصودة، لا فى تحالفات ولا تنسيقات ولا اندساسات، من كل من هو محسوب على معسكرات معادية لها فى الحقيقة والجوهر، من نظام مبارك وتوابعه، ومن جماعة الإخوان وملحقاتها. أما الدلالة الثانية وهى التى يجب التوقف أمامها والانتباه لها، وهى مكملة لمشاهد 25 أبريل أيضا، فإن موقف السلطة من هذه القضية تحديدا، عمّق ورسّخ انقساما جديدا فى المجتمع المصرى، وهو تواصل لسلسلة الانقسامات التى أدت إليها مجمل السياسات الحاكمة منذ ما بعد 25 يناير، بدءًا من المجلس العسكرى ومرورًا بالإخوان ووصولا إلى السيسى.. وهذه واحدة من أخطر القضايا والدلالات التى ينبغى التوقف أمامها بحرص، تماما كما ينبغى أخذها فى الاعتبار مع تقييم طبيعة هذه السلطة والموقف منها. (3) لم تكن خسائر 25 أبريل قليلة حتى الآن بالتأكيد، فقد سرت موجة تخويف جديدة فى المجتمع، وصاحبتها موجة تشويه واضحة لكل من يدعو أو يعلن موقفا مختلفا ومعارضا، ثم إنها أدت للقبض على مئات حتى الآن قبلها وأثناءها، وربما تكون لها المزيد من التداعيات.. لكنها فى المجمل أيضا شهدت مكاسب لا يمكن غض الطرف عنها، فإصرار آلاف من المصريين وبالذات شبابهم على تنفيذ دعوتهم للتظاهر رغم فشلها، فى ظل كل هذا القمع والتخويف، ثم استخدام تكتيكات مختلفة وسريعة حتى وإن كان بعضها متعجلا فى محاولات التجمع والتظاهر السلمى، ثم التمسك الكامل والواضح من جانبهم بهذه السلمية، رغم كل ما جرى معهم وضدهم من اعتقالات واعتداءات وتجاوزات، وفضلا عن هذا وذاك فإعادة فرز المعسكرات التى اختلطت خلال العامين الماضيين لتصطف غالبية قوى يناير مجددًا فى موقف واحد رغم كل اختلافاتها وتفاوتات تقديراتها فى أساليب العمل والأدوات وحتى الشعارات الأكثر ملاءمة، هى فرصة مهمة لا ينبغى التفريط فيها الآن مهما كان حجم الخلافات والتباينات، وعلى الأقل حفظ الحد الأدنى من مساحات التنسيق والعمل المشترك. طبعا هذه مسألة شديدة التعقيد والتركيب، وهى كذلك محفوفة بالمحاذير والشكوك المتبادلة، لكن لا سبيل لقوى يناير، إلا أن تصطف معًا الآن، دفاعًا عن أرض مصرية، وعن حق المصريين فى الديمقراطية والشراكة فى القرارات الكبرى لوطنهم، والاصطفاف المقصود هنا لا يعنى إلغاء الخلافات على طريقة غيرنا من الداعين له ورافعين شعاره، كما أنه بالتأكيد لا يعنى اصطفافا يشمل قوى معادية لا يمكن قبول وجودها فى نفس الخانة حتى لو اتخذت نفس الموقف حقا أو ادعاء.. لكن هنا تأتى نقطتان شديدتا الأهمية، الأولى هو أنه لا يمكن لطرف من هؤلاء منفصلا عن الآخر أن يحقق أى تقدم أو نجاح يذكر، لا من حيث هذه القضية تحديدا، ولا غيرها، والمطلوب بوضوح وبساطة هو قبول التنوع وتفهّم الاختلاف فى التقديرات، على أرضية واضحة وهى ما نحن معه لا ما نحن ضده فحسب، ولو مرحليا.. فلا نخبة وحدها، ولا أحزاب سياسية وحدها، ولا حركات شبابية وحدها، ولا نشطاء مستقلون وحدهم، ولا شباب أصغر سنا وأحدث انخراطا فى العمل العام وحدهم، لن ينجح أى طرف من هؤلاء منفردًا.. ثم إنهم كذلك لا يمكن أن يتفقوا فى كل الآراء والتقديرات، ولا يمكن أن يفرضوا على بعضهم مواقف.. لذا فالعمل على بناء مساحات التوافق والعمل المشترك الآن، وبأعلى قدر ممكن من التوافق وأقل قدر ممكن من الخلافات التى يمكن تأجيلها، هو المدخل الصحيح، لا للتقدم فى قضية الجزر فحسب، بل والأهم فى بناء جسور للمستقبل، ومد أواصر العلاقة مع جمهور واسع ومجتمع متنوع، ضربته الانقسامات، وأثرت عليه حملات التشويه والتضليل، ولا تزال معاناته تتزايد من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. (4) قالوا إن آفة حارتنا النسيان، لكن منذ 25 يناير أصبحت آفة حارة الثورة المزايدات، فتحولت من شوارع وميادين واسعة إلى حارات ضيقة منعزلة، وقد آنَ أوانُ أنْ ندركَ أن ما ندعو إليه غيرنا علينا أن نمارسه بأنفسنا، وأن نحترم تنوعنا واختلافنا، وأن نتفهم تعدد أدوارنا وعدم تطابقها.. ثم ومع هذا وذاك، أنْ نعمل بجد ودأب وإصرار على خلق أوسع إطار ممكن للعمل المشترك فيما نتفق عليه. مفهوم تماما ومقدّر أن هناك تفاوت سرعات، وتباين تقديرات، بل واختلاف فى طرق ومناهج التفكير، لكن مجددًا، درس يناير ويونيو وما بعدهما، هو غياب التنظيم، وغياب وحدة الموقف ولو الجزئى لا النهائى.. والتنظيم المقصود هنا والمطلوب الآن ليس بالضرورة حزبًا، رغم أهميته، لكن يمكنه أن يكون إطارًا أوسع وأشمل، بشرط تحديد مكوناته بدقة، وأهدافه بوضوح، وقضاياه بأولويات، ثم وهو الأهم أن يراعى ثلاث نقاط بالغة الأهمية، تنوعه جيليا وسياسيا وفكريا ومهاريا، وتوازنه بين الإيمان واليقين فى قدرة وإبداع الشباب وضرورة تسييس الخطاب والحركة ومد جسورها للناس، لأنهم الطرف الأهم فى المعادلة، وأخيرًا تعدد وتجدد أدوات وآليات العمل وعدم اقتصارها على شكل وطريقة واحدة، مهما بدت جذابة وثورية، لأنه قد يكون لها مكاسب حقيقية، لكن قد يكون معها أيضا خسائر محققة.. والأهم هو سياسة النفس الطويل، لا الضربة الفاصلة التى لا يبدو أنها قريبة، ولا مفيدة. (5) ربما هناك الكثير جدا مما يدعو إلى الألم والغضب، لكن لا يوجد ما يدعو للإحباط، وربما الكثير من دروس السنوات السابقة لا تزال تحتاج لمزيد من الاجتهاد فيها والنقاش حولها، لكن هذا لا يعنى أن الدروس انتهت، فمع كل حركة وكل موقف تستجد الدروس والإشارات.. وربما بشارات الأمل عديدة حتى لو بدت بعيدة، لكن هذه البشارات لا ينبغى التعامل معها برهانات مطلقة فى لحظات ليست ملائمة، وإنما بالتراكم الذى يبنى للأمام، خاصة أن المعركة لم تنته، ثم إنها ليست المعركة الوحيدة وساحاتها متعددة من السياسى إلى الاقتصادى والاجتماعى إلى الديمقراطى إلى الوطنى، والأهم فيه سند الناس وثقتهم.. والتضحيات التى قدمت ولا تزال تقدم، من دماء شهداء وحريات معتقلين ومعاناة مجتمع، تحتاج إلى المزيد من الدأب والصبر والهدوء والحكمة التى تنتصر للموقف بالبناء وطرح البدائل، جنبًا إلى جنب مع الاحتجاج والتعبير عن الرفض.