صدر الأسبوع الماضى بيان بعنوان (نداء للشعب) طارحا مبادرة (لنصنع البديل الحقيقى) ، وهى التى نشرت فى البداية كمقال للدكتور عمار على حسن ، ثم بدأ نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعى ووسائل الإعلام بتوقيع (اللجنة التحضيرية لتوحيد القوى الوطنية المدنية) .. هذه الدعوة أو المبادرة ، تستحق التوقف أمامها بشكل جاد ، ليس فقط لما جاء فيها ، وإنما كذلك لما أثارته من جدل وتفاعل وقبول ورفض ، خاصة بما يكشف كل ذلك الإتفاق والخلاف معها من حقائق ومعطيات تستحق التأمل والتعامل معها. (1) جددت المبادرة دعوات قديمة للفكرة الجوهرية الغائبة منذ ثورة 25 يناير ، والتى رغم تكرار الحديث عنها كثيرا من أطراف متعددة ، لم تنجح فى بلورتها بشكل حقيقى ومكتمل ، رغم وجود محاولات عديدة فى هذا الإتجاه .. جوهر المبادرة هو ما يمكن تسميته ببناء تنظيم لتيار ثورة يناير ، عبر مستويات متعددة ، فيما طرحته هذه المبادرة ، عبر بناء حزبى ، تتوحد فيه الأحزاب المتقاربة فكريا ، وإطار جبهوى يجمع أحزاب وقوى سياسية ، والجديد هنا هو طرح مستوى الشبكة التى تضم إلى جانب القوى السياسية أطر مجتمعية من نقابات مهنية وتجمعات عمالية وحركات شبابية ومنظمات مجتمع مدنى وتنظيمات أهلية وشخصيات عامة. هذا الإطار المطروح يبدو واسعا ومرنا ، بحيث يستوعب طاقات وتنوعات وإختلافات المنتمين ليناير على تعدد وتنوع توجهاتهم ، ولا يحصرها فى الإطار السياسى فحسب ، وهى ميزة مهمة لهذا الطرح ، رغم ما فيه من تداخلات وتعقيد وصعوبة ، لكنه يبدو حل تنظيمى عبقرى نظريا ، لفكرة بلورة كتلة سياسية إجتماعية واسعة تعبر عن وجود مؤكد لكنه مشتت لقوى وأنصار وجماهير يناير .. لكن يبقى السؤال الأهم والأصعب حول مدى القدرة والإمكانية لتحقيق ذلك عمليا لا مجرد طرحه نظريا. المبادرة فور طرحها واجهت الكثير من التفاعل ، بدا كثير منه فى إطار النقد والخلاف ، الذى امتد بالطبع للتشويه والتسفيه وكيل الإتهامات .. ورغم أن هذا يبدو متسقا تماما مع المناخ العام السائد فيما بعد 30 يونيو بالذات ، لكن هذه المرة بدت الأزمة فى جانبين أبعد من كونها تتعرض للهجوم والخلاف من خصوم طبيعيين لمثل هذه الفكرة ، الجانب الأول هو أن كثير من سهام النقد والخلاف جاءت من جانب من يمكن إعتبارهم مستهدفين بهذه المبادرة ، وممن يمكن إعتبارهم بالمعنى الواسع (كتلة يناير) ، بينما كان الجانب الثانى هو ما بدا لاحقا من قدر من إختزال المبادرة فى حدود تقليدية لا جديد فيها عما هو قائم بالفعل على الساحة السياسية منذ فترة ، مما أفقد المبادرة المطروحة تدريجيا قدرا من الزخم الذى جرى حولها ، أو ربما حملها أكثر مما تحتمل منذ البداية. (2) بينما كان يفترض – نظريا – أن تكون إنتخابات الرئاسة 2014 فرصة لتجمع قوى يناير مجددا ، وأيا كانت نتيجتها فرصة للبحث عن أطر جديدة لتوحيد وتنظيم صفوفها ، إلا أن تباين المواقف وخلافات سابقة عليها فى المواقف والتوجهات وردود الفعل ، فضلا عما صاحب المناخ السياسى كله ، أدت لأن تسفر هذه الإنتخابات عن هزال جماعى فى وضع هذه القوى ، بما فيها من كانت صاحبة أدوار كبيرة وأوزان تنظيمية مؤثرة وفاعلة ، فتشكل التيار الديمقراطى كجبهة سياسية تضم 6 أحزاب وعدد من الحركات والتجمعات والشخصيات ، لكنه فى ظل أوضاع أطرافه التنظيمية ، وكذا فى ظل المناخ السياسى العام ، لم ينجح فى أن يمثل قطبا جاذبا صالحا للبناء عليه فى توسيع وتعميق تيار منظم لقوى يناير .. ومن هنا بدأ التفكير من جانب بعض قياداته وأطرافه فى تطوير صيغته لما يقترب من الإتحاد وليس فقط الجبهة ، وهو ما طرح فى سياقه فكرة توحيد ودمج الأحزاب ، لكنها واجهت إختلافات طبيعية فى الرأى وتخوفات سياسية وتنظيمية ، فاقتصرت فى النهاية على محاولات لدمج حزبى الكرامة والتيار الشعبى الذى كان فى طور التأسيس كحزب رسمى. لذا ، فعندما جاءت مبادرة (لنصنع البديل) لتطرح الإطار الحزبى الموحد كأحد أدواتها ومستهدفاتها ، تعامل الكثيرون معها بمنطق أوسع مما هو متاح فى اللحظة الراهنة ، وكذلك تعامل البعض معها من الأطراف السياسية القائمة تنظيميا بإعتبارها إعادة طرح لما سبق نقاشه .. ثم وعندما طرحت إطار جبهويا ، ظن البعض من أطراف التيار الديمقراطى أنها تخلى عن الإطار القائم حاليا ، وهو ما أدى لمواقف متحفظة من البعض ، بينما اعتقد آخرين أنها تطرح صيغة جديدة لتجمع سياسى أوسع وأكثر فاعلية من التيار الديمقراطى ، وبالتالى كان يفترض أن تفتح حوارا واسعا مسبقا مع أطراف أخرى خارج التيار الديمقراطى ، وذهب البعض لتصور أنها قد تكون أقرب لجبهة الإنقاذ ، وهو ما جاء واحدا من الأسباب التى أدت لهجوم واسع على المبادرة بسبب الربط بين الدور المرجو منها والدور الذى أدته جبهة الإنقاذ سابقا. أما الإطار الأكثر إتساعا ، وتأثيرا ، وفاعلية ، والذى بالتأكيد لا يغنى ، بل ولا يمكن بنائه أصلا بدون الإطارين السابقين فى القلب منه ، وهو الشبكة ، فإنه لم يحظى بعد بما يجب من تفاعل معه ، بل ولم يحظى أيضا بما ينبغى من جهد من جانب من طرحوا المبادرة فى إتجاه تفعيل بدايات تأسيسه وبنائه. (3) كانت أحد الأمور الحاكمة لردود الفعل حول المبادرة الجديدة ، هو موقف ما يسمى بكتلة يناير من 30 يونيو .. فقد أشارت المبادرة بوضوح فى بيانها ، وفى أسسها السياسية السبعة التى حددتها ، أنها تعتبر 30 يونيو موجة ثورية مكملة ليناير وأنها ترفض التنسيق والتشارك مع الأطراف التى تراها إنقلابا تماما كما ترفض التعامل مع من يعتبرون يناير مؤامرة .. لكن إذا كان ذلك هو موقف من تقدموا بالمبادرة ، إلا أنه ليس موقف بعض كتل وشخصيات وشباب يناير ، وبالتأكيد لا نقصد هنا الإخوان وحلفائهم المباشرين ، بل نقصد قوى أخرى بغض النظر عن حجمها التنظيمى وتأثيرها الجماهيرى ، وشخصيات وكتل واسعة ممن يسمون بالنشطاء ، الذين يذهب بعضهم للتفرقة بين 30 يونيو بإعتبارها تحرك جماهيرى واسع بهدف إزاحة سلطة الإخوان ، وبين 3 يوليو بإعتبارها تأسيس للسلطة الحالية وبداية لمسار قائم تقوم معه وحوله كثير من الخلافات الجذرية ، وبعضهم الآخر حتى ممن يعتبر 3 يوليو إستكمالا لتحرك 30 يونيو ونتيجة طبيعية له ، يرفض النظام الذى تأسس بعدها وممارساته ، سواء خلال مرحلة عدلى منصور أو بعد تولى السيسى الحكم ، وكلا هذين الطرفين على ما بينهما من تفاوت فى الموقف والتقدير والتأسيس السياسى والفكرى ، لكنهما فى النهاية لا ينظران إلى 30 يونيو بنفس الدرجة والقدر من المساواة مع ثورة يناير. الخلاف حول هذه القضية قائم وسيبقى لفترات طويلة ، ولن يحسم ربما لعقود قادمة ، لكن هناك منطلقين أساسيين من الضرورى الحوار الجاد حولهما .. الأول هو أنه إذا كان القياس بالآثار فإنه بنفس المنطق ينظر البعض ليناير بإعتبارها مؤامرة بسبب بعض الممارسات خلالها وبسبب ما آلت إليه الأمور بعدها ، وهو الموقف الذى ترفضه عن حق معظم قوى يناير وشخصياتها وشبابها .. ومن هنا فلا يمكن إعتبار يونيو أيضا بمنطق المآلات ، مع كل الخلاف مع ما جرى بعدها ، إنقلابا .. وصحيح أن الثورة فى النهاية يحكم عليها بقدر ما تدخله من تغيرات جذرية فى المجتمع وتركيبته والسياسات التى تحكمه ، وهو ما لم يتحقق فى كلا من يناير ويونيو ، لكنها أيضا من زاوية أخرى تقاس بالتحرك الشعبى فيها ، وهو كان جليا وواضحا فى كلاهما دون شك .. ومع ذلك فالبعض يدفع بأن تحرك الجماهير فى يونيو كان مدفوعا ومصنوعا ومهيئا له ، وحتى إن بدا ذلك صحيحا فى بعض جوانبه ، إلا أنه فى الحقيقة يختزل فى النهاية عوامل عديدة مركبة تضافرت فى لحظة معينة حتى دون تنسيق مباشر أو إتفاق واضح ، ثم إنه والأهم يهدر دور كتلة يناير نفسها من جانب بعض أطرافها ، فى التمهيد والإعداد والإنجاح ل30 يونيو كفعل ثورى جماهيرى ، كما أنه يخلق فجوة واسعة بينه وبين جمهور واسع وكبير لم يتحرك فقط من أجل شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ، بل أضيف لها الخوف على الدولة المصرية ومؤسساتها وهويتها وبقائها. الوقوف أمام هذه النقطة وحدها كحاجز وعائق بين قوى يناير وكتلها ، ومدى قدرتهم على إيجاد مساحات مشتركة فيما بينهم ، لن يمكن تجاوزه إلا من خلال المنطلق الثانى ، وهو المراجعات المطلوبة من كل طرف لدروس السنوات الخمس السابقة .. وهو مدخل لا بد منه إذا كنا جادين فى الإنتصار لثورة يناير ، وساعين لإعادة الاعتبار لقضية التغيير الديمقراطى فى مصر ، وتحقيق إنجازات ملموسة حقيقية لا دعائية على طريقة السلطة ، فى طريق الإقتراب من أهداف وشعارات الثورة . ومن هنا ، فإن أنصار يناير المخاصمين ليونيو عليهم قدر من المراجعة لمواقفهم التى خلقت حواجز ومسافات واسعة بينهم وبين شركاء لهم وكذلك بينهم وبين جمهور واسع عريض كثير منه كان مؤيدا بل ومشاركا فى يناير ، ووقف صيغ التعالى والحكمة بأثر رجعى حتى وإن كان بعضهم يعتقد فى صحتها ، والأهم وقف حملات التشكيك والتشويه المتتالية لكل من اختلف معهم فى لحظة سابقة أو راهنة ولو فى موقف جزئى أو رأى سياسى .. ثم إن أنصار يناير الذين يرون يونيو إمتدادا لها عليهم أيضا واجب مراجعة بعض مواقفهم فيما بعد 30 يونيو والصمت أحيانا عن كثير من التجاوزات والإنتهاكات بإعتبارها ضرورات مرحلة أسست فى الحقيقة لما بعدها ، وعليهم كذلك المبادرة للتقارب مع الأطراف التى اختلفت معهم بل وشككت فيهم ، حتى لو لم يكن من باب الشراكة ، فعلى الأقل من باب الحوار الذى سيكون كفيلا وحده بتجاوز الكثير من الإلتباسات والإختلافات. والحقيقة أيضا أن كلا الطرفين عليهم مراجعة واضحة لتحالفاتهم السابقة أو القادمة ، فإذا كان أحدهما أخطأ فى مرحلة بالتحالف مع قوى تقليدية محسوبة على النظام السابق ، فإن الطرف الآخر أيضا يخطئ بالإعتقاد أن عليهم التحالف مع الإخوان أو من شابههم .. وبوضوح شديد ، فالتحالف الصحيح الذى ينبغى أن ينهض ويقام هو تحالف يناير لا غيره ، والذى امتد إلى يونيو حتى لو تفاوتت تقديرات أطرافه بعدها ، وهو عمليا ما يخصم كلا من قوى وشبكات النظام السابق المتجدد وجماعة الإخوان من هذا التحالف.