يعلم المرسى أنه وحده. الجماعة تفكر فى إنقاذ مندوبها لكن أجهزة الدولة (أمنية وغيرها) قررت الحياد والركوب مع الغالب. مَن أوصل المرسى إلى هذه اللحظة التى يبدو فيها مصيره معلقا بما سيحدث فى 30 يونيو؟ ليس المرسى بالتأكيد فهو مجرد أداة/ واجهة/ مندوب، والأزمة ليست مجرد فشل خطة الشاطر فى «التمكين» أو «الأخونة» أو «فتح مصر»، أو ترهل التنظيم الذى عاش تحت الأرض تحت وهم أنهم «الطليعة المؤمنة»، كما أنها ليست مجرد تخبط سياسات أدت إلى شعور عام بالسخط والغضب واليأس. الخلل فى المشروع نفسه، مشروع تدمير الدولة الحديثة/ أو استعادة الخلافة أو الأستاذية كما سماها حسن البنا، أو اختيار لحظة بعينها من تاريخ المسلمين واعتبارها الإسلام. تصلح أحلام الحنين إلى لحظة فى التاريخ أساسا لتكوين تنظيم فاشى (كما حدث فى إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى) لكن الإخوان وكل خوارجهم من تنظيمات تلعب على نفس الفكرة يريدون «فاشية» يسمونها «سماحة» وعبر الديمقراطية أى وسيلة مهما أفرغوها من مضمونها أو سياق أفكارها لا يمكنها أن تلغى اعتمادها على التساوى بين البشر. مرة أخرى: لماذا فشل المرسى أو وصل إلى 30 يونيو عاريًا من الاختيارات..؟ أعتقد أن هناك من البداية تصورا خادعا بأنه يمكن لمشروع يقوم على تدمير الدولة الحديثة أن يبنى أعمدته على أطلالها، وكتبت فى مقالى الشهرى بموقع «مراسلون» مقالا تحت عنوان: «وأمير المؤمنين إذ يطفو» وصلت فيه إلى أن المرسى يبحث عن معلم يدربه على قانون الطفو.. ذلك القانون الذى عاش به مبارك سنواته الثلاثين. لكن كيف سيطفو الأيديولوجى/ صاحب المشروع/ مندوب الجماعة المؤمنة/ رأس حربة الحكم الإسلامى؟ مبارك كان خفيفا، اختار موقع الموظف، بأدراجه وملفاته، وتراثه الطويل ليدخل به قصر تركه السادات وعبد الناصر ساحة حروب فى الداخل والخارج، وأصبحت طبيعة الموظف (عند مبارك) بطولة وحده عند قطاع من طبقات وشرائح أرهقتها حروب الرئيس/ بطل الثورة والحرب والسلام، وتريد العيش فى أمان يعد به الموظف بتبريد كل شىء ووضعه فى الدرج. القانون هنا يعتمد على «تبريد» موقع مصر الجغرافى السياسى الثقافى، وثقلها «الساخن» كموتور يعبر بالمنطقة أقاليم (بين الحداثة والتخلف/ بين الاستبداد والديمقراطية/ بين القرن الخامس والقرن الحادى والعشرين/ بين المقدس والفوضوى/ بين الاستقرار والثورة/ بين النفط و«فيسبوك»). الطفو عند مبارك كان اختيارا يناسب طبيعته، والطريقة التى تسلم بها الحكم بعد ذروة درامية (قتل الحاكم فى قلب استعراض جيشه) ولم يكن هناك حل إلا السيطرة على الأحداث بدفعها إلى «ثلاجة» الحكمة وأدراج الموظف الخالدة، ووضع مصر كرأسمال سياسى ورمزى رهن التفاوض لا التفاعل. بهذه المعادلة توقف نمو مشروع «دولة» محمد على عند حدود البيروقراطية، وانتقلت المؤسسة العسكرية (النواة الصلبة) فى مرحلة ما بعد ثورة العسكر 1952 من وضع (القتال) إلى تمتين بيروقراطيتها مقابل تبريد حسها القتالى وفعاليتها كأكبر جيش فى المنطقة واتساع ذراعها المسيطرة على حركة الاقتصاد والمهيمنة من بعيد على تركيبة السلطة. مرسى (أو جماعته) عقد شراكته مع المؤسسة، بعد فترة صعبة خاضت فيها لأول مرة حروبا داخلية ضد مواطنين، بهدف تغيير التوازن الذى اختلّ بعد الثورة، حيث فقدت النواة الصلبة موقعها، وبدا أن تركيبة «الدولة» كلها (دولة كهنة يعرفون المصالح العليا من غرفهم السرية.. وشعب أو قطيع هائم فى الساحات من أجل تدوير الماكينة الكبيرة…). الحس القتالى للمؤسسة (البيروقرطية لإدارة الجيش) ضد مواطنين مصريين، دفعت ثمنه بقبول شراكة مع الإخوان فى الحكم (برعاية أمريكية) فى شركة ما زالت مرتبكة فى عملية الطفو مع الرئيس الثقيل بأفكاره على أنه «أمير مؤمنين» وليس رئيسا. مرسى فى بدايته تصور أنه قادر على أن يكون «الوحش السُّنِّى» الذى يعيد أمجاد الناصرية دون عبد الناصر وبتغيير رايته الأيدولوجية من القومية إلى الإسلام، وأغوته نجاحات غزة فى التوافق بين حماس وإسرائيل، لكنه عاد سريعا من الغواية تحت إلحاح متطلبات «مباركية» دون مبارك. كيف يدير «أمير المؤمنين» دولة على خُطَى الموظف؟ سؤال كانت إجابته الوحيدة فى «تمكين» الجماعة من مؤسسات غرقوا فيها، وانكشفت الكفاءات المتواضعة عن كوارث تراكمت عندها ما يلخصه الشعب فى: « البلد بتغرق..». ورغم أن غالبية المصريين لا يريدون حربا مع إسرائيل، فإن الشعور بالخطر دفع قطاعات مثلا للمطالبة بالحرب (ضد الإرهاب فى سيناء وضد إثيوبيا فى أزمة مياه النيل)، وكما يحدث فى لحظات الغرق يصرخ البعض (مستدعيا بطولات رؤساء ما قبل مبارك) ويسخر البعض (مقارنا بين ما يفعله مندوبهم فى القصر الرئاسى وبين عنتريات الإخوان قبل الوصول للحكم). الشعور بالغرق مربك، ولهذا كان لا بد أن يتعلم «أمير المؤمنين» الطفو.