كثيرة هى القضايا التى أُثيرت فى النقاش العام بعد محاضرتى مساء يوم الأحد 13 مارس الجارى عن "الجذور الاجتماعية والسياسية للإرهاب فى الشرق الأوسط" فى المعهد الفرنسى لبحوث التنمية (سيداج). ولكن قضية العلاقة بين الديكتاتورية والإرهاب تصدرت هذا النقاش. ولا غرابة فى ذلك، فالعلاقة وثيقة بينهما بشكل عام، وليس فى منطقة الشرق الأوسط وحدها. ولكنها أكثر وضوحا فى هذه المنطقة الآن، كما كانت فى أمريكا اللاتينية وآسيا فى النصف الثانى من القرن الماضى. وُلد جنين هذا الإرهاب فى ثنايا المقاومة التى اندلعت ضد الاستعمار الذى احتل الكثير من بلاد منطقتنا لفترات تفاوتت من بلد إلى آخر خلال القرنين الماضيين. فإلى جانب البُعد الشعبى السلمى لهذه المقاومة، كانت هناك مقاومة عنيفة مشروعة ضد أى استعمار أو احتلال. ولكن العنف لم يقتصر على المستعمرين ومصالحهم، بل امتد إلى من اتهموا بأنهم "عملاء" أو "أذناب" للاستعمار. وهكذا فمن بطرس غالى إلى القاضى الخازندار مرورًا بأمين عثمان وغيرهم ممن تم اغتيالهم بهذه التهمة، وُلد جنين العنف السياسى فى مصر، ومثله فى بلاد أخرى فى المنطقة. وكان لخطر الحركة الصهيونية على فلسطين أثره فى هذا المجال، حيث خلق عنفًا ضد اليهود الذين كانوا جزءًا من النسيج التاريخى لعدد من المجتمعات العربية. كما ظهرت فى ثنايا مقاومة الاستعمار نزعات دينية وقومية متطرفة تحمل فى طياتها بذور العنف. كبر ولم يضمحل ولكن جنين العنف هذا كان ممكنا أن ينمو ويكبر، مثلما كان يمكن أن يضمحل ويسقط، بعد رحيل الاستعمار. كان الأمر متوقفا على البيئة الاجتماعية - السياسية فى بداية مرحلة الاستقلال وخلالها. وتتأثر البيئة الاجتماعية - السياسية عموما، وفى أى بلد بمؤثرات عدة. ولكن طبيعة النظام السياسى تؤثر فيها أكثر من أى عامل آخر فى ظروف معينة، وخاصة فى بدايات مراحل التحول التاريخى. وكان التحرر من الاستعمار بداية إحدى هذه المراحل فى التاريخ، حين وقفت البلاد المحررة فى مفترق طريقين، أحدهما يرتبط ببناء نظام ديمقراطى، والآخر يترتب على إقامة نظام استبدادى. ولكن النخب السياسية التى قادت بلاد المنطقة فى ذلك الوقت اختارت الطريق الثانى، وأقامت نظما استبدادية اختلفت أشكالها ولم تختلف ممارساتها العنيفة ضد مجتمعاتها. فكان العنف السلطوى مغذّيا لجنين العنف السياسى المجتمعى الذى وُلد فى ثنايا مقاومة الاستعمار. فقد خلق العنف السلطوى حالة تخوين، حيث تم اتهام كل من اختلف مع النظم الاستبدادية بالخيانة التى صار التكفير هو الوجه الآخر لها. كما أدى العنف السلطوى إلى خوف من أى نوع من المشاركة السياسية، وأغلق المجال العام، ونزع السياسة من المجتمع. وترتب على ذلك تدهور تدريجى، كان أخطره هو ما ترتب على الخوف من التفكير خارج الصندوق الذى وضع الاستبداد المجتمع داخله، وبعيدا عن "الصف" الذى فُرض على الناس أن ينتظموا فيه. وحين تجف ينابيع التفكير فى أى مجتمع، تُفتح صنابير التطرف. فالعقل الذى لا يفكر لأن الخوف يهدده لا يستطيع تقدير الأمور والتمييز بينها ومراجعة المواقف وتصحيحها. وهذه هى أهم معالم البيئة الاجتماعية - السياسية المنتجة للإرهاب. فرضية خاطئة وهكذا نما جنين العنف فى ظل بيئة مواتية له قاومت نظم الحكم فى المنطقة إصلاحها. ولجأت هذه النظم إلى مواجهة العنف حين بدأ ينمو ويتوسع بالوسائل الأمنية والعسكرية وحدها. لم يستوعب أحد أن الفرق جوهرى بين مواجهة الإرهاب ومحاربة بعض الإرهابيين. والمفارقة أنه كلما تنامى خطر الإرهاب، ازداد بريق الفرضية القائلة إن محاربة الإرهاب أمنيا وعسكريا هى الحل. ولذلك صارت مناقشة هذه الفرضية بأكبر قدر من الموضوعية والواقعية ضرورة اليوم أكثر من أى وقت مضى، بعد أن ازداد بريقها. وإذا صح أنه ليس كل ما يلمع ذهبًا، فليس حقيقيا بالتالى أن كل ما يزداد بريقه فى لحظة معينة تكون له قيمة، وخاصة حين يحدث ذلك تحت وطأة الخوف من خطر أو تهديد ما. والحال أن مناقشة فرضية أولوية محاربة الإرهاب على كل ما عداه، بما فى ذلك العوامل الأساسية المسببة لهذا الإرهاب، تتطلب إزالة الالتباس الذى يحصل عادة عند الفصل بين عناصر لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة، لأنها تُشكل معادلة واحدة لا تتجزأ. فالاستبداد يعد فى أعلى مراحله نوعًا من الإرهاب يُعرف فى القانون الدولى بإرهاب الدولة. ولكن هذا النوع من الإرهاب مسكوت عنه الآن، رغم أنه من أهم أسباب الإرهاب "الأسود" الذى يتصدر جدول الأعمال العالمى. ويكمن الخلل الأساسي، هنا، فى أن محاربة الإرهاب ومقاومة الاستبداد ليستا عمليتين منفصلتين يمكن التعاطى معهما على التوالى. وما الزعم بضرورة مواجهة الإرهاب أولا إلا التفاف على خبرات متراكمة تفيد أن بيئة الاستبداد تنتج أعدادًا من الإرهابيين أكثر ممن يمكن قتلهم أو اعتقالهم فى أى حرب. الإرهاب الأسود.. والأحمر فقد كان الاستبداد بكل مترتباته وتداعياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وليست السياسية فقط، من أهم عوامل ظهور "الإرهاب الأسود" الذى يجد فى تفسيرات دينية متطرفة غطاءً "فكريا" منذ إرهاصاته الأولى فى ستينيات القرن الماضى، مثلما كان أحد أبرز عوامل ظهور "الإرهاب الأحمر"، فالعلاقة بين الإرهاب والاستبداد قديمة وسابقة على ظاهرة "داعش" بكثير. وتفيد دراسة أصول هذا الإرهاب أن ظروفا موضوعية دفعت مجموعات من الشباب إلى البحث عن عقيدة حافزة على التمرد ضد أنظمة حكم مستبدة، بعد أن انطفأ وهج "العقائد" اليسارية الماركسية، ووجدوا ضالتهم فى مقولات فقهية إسلامية متطرفة. فقد خرج هذا الإرهاب من ظلمات سجون حكومات أمعنت فى الاستبداد، ثم أُخرجت التفسيرات الفقهية المتشددة من بطون كتب ظلامية لتؤدى دورا وظيفيا فى إضفاء "شرعية" عليه. بدأت "القصة" عندما أغلقت أنظمة مستبدة أبواب المستقبل، فلم يجد بعض من وجدوا أنفسهم أقرب إلى الأموات إلا التطلع لحياة أخرى بعد الموت. وكان الاستبداد فى مقدمة العوامل التى دفعتهم، وما زالت، إلى الإرهاب الذي بدأت مقدماته الأولى -والحال هكذا- نتيجة القهر والقمع والظلم. وهكذا أخذ حاملو الرايات السود مفاهيم مثل: الجهاد، والولاء والبراء، وتطبيق الشريعة، وغيرها من خلال أكثر تفسيراتها غلوًّا، وأعادوا تأويلها بما ينسجم مع اتجاههم إلى العنف المسلح فى بداياته الأولى، كما حدث فى مصر فى ستينيات القرن الماضى حين بُدئ فى تكوين تنظيمات "دينية" مسلحة. الظواهرى.. وسيد قطب وتنطوى قصة أيمن الظواهرى الزعيم الحالى لتنظيم "القاعدة" على مغزى مهم فى هذا السياق. فقد اتجه الصبى سليل العائلتين العريقتين (الظواهرى وعزام)، والمتفوق فى دراسة الطب، إلى التطرف ومنه إلى الإرهاب الذى سماه جهادًا، نتيجة عوامل، فى مقدمتها الاستبداد الذى ملأه غضبًا. وهذا هو ما يُستفاد من روايته قصة تحوله هذا فى كتابه "فرسان تحت راية النبى"، إذ شرح كيف أثر إعدام سيد قطب عام 1966 فيه أكثر مما تأثر بكتاباته، وقال إنه قرأ "كلمات قطب ممزوجة بدمائه". وربما كان ما كتبه قطب وقُرئ على هذا النحو قد طواه النسيان، أو فُهم بطريقة أقل مغالاة، لو لم يتم إعدامه. فلا تختلف فكرة "الطليعة المؤقتة" عنده جوهريا عن "الطليعة المتقدمة أو طليعة البروليتاريا" لدى بعض التيارات الماركسية. ولكن إعدامه أسهم فى إضفاء معنى "قتالي" عليها، فأعاد غاضبون متمردون ضد سلطات مستبدة صوغها ضمن مستلزمات توفير مرجعية لأضفاء "شرعية" زائفة على الإرهاب بوصفه "جهادا" ضد هذه السلطات التى لم تعد فى نظرهم مستبدة فقط، بل صارت "كافرة" أيضا. وكان هذا الربط الساذج بين الاستبداد والكفر أكثر وضوحا لدى شاب آخر فى المرحلة نفسها هو شكرى مصطفى، أحد مؤسسى "جماعة المسلمين" التى عُرفت إعلاميا باسم "التكفير والهجرة"، إذ سأل سؤالا ساذجا وأجاب عنه إجابة أكثر سذاجة. سأل عما إذا كان من مارسوا كل ذلك التعذيب الوحشى فى بعض السجون المصرية فى ستينيات القرن الماضى مسلمين حقا. ولم يجد عقله المحدود البسيط، الذى أسهم فى غلقه نظام تعليم متخلف كرسه نظام حكم مستبد، جوابا إلا أن "أولئك الظالمين لا يمكن أن يكونوا مسلمين". الاستبداد نوع من العنف وهذه العلاقة الوثيقة بين الإرهاب والاستبداد ثابتة فى كثير من الكتابات التحليلية، ولعل آخرها كتاب إبراهيم الحيدرى "سوسيولوجيا العنف والإرهاب". فالاستبداد ينطوى على عنف ضد المجتمع، أو بعض فئاته. ولذلك تنتشر ثقافة العنف عادة فى المجتمعات المقهورة، على النحو الذى يوضح كتاب الحيدرى كيفية حدوثه فى العراق فى العقود الماضية. وقد حدث ذلك فى سوريا أيضا، وفى بلاد أخرى بدرجات متفاوتة. ولو أن القنابل والصواريخ تقضى على الإرهاب، لصدق بوش الثانى عندما أعلن فى مايو 2003 وهو فى قمة النشوة أن المهمة أُنجزت Mission Accomplished وفق تعبيره، وما كان هناك "داعش" اليوم. ولذلك كله فليس إلا وهمًا، أو محاولة لتسويق الوهم، السعيُ إلى القضاء على "داعش" بدون تغيير سياسى جذرى يؤدى إلى نظام ديمقراطى تعددى يقوم على المواطنة فى سوريا، وإصلاح حقيقى فى العراق، إلى جانب فتح أبواب المشاركة الحرة التى تخلق أملا فى مستقبل أفضل أمام الشباب فى غيرهما من بلاد المنطقة، وفى مقدمتها مصر. فهذا هو درس التاريخ فى العلاقة بين الديكتاتورية والإرهاب.