فى أثناء حديثى عن جمال حمدان كقيمة ثقافية وعلمية كبيرة، وكنموذج للمثقف الوطنى الذى لا يساوم على العلم ولا على القيم الأخلاقية النبيلة، جرت مياه كثيرة تحت الجسر. فبعد العملية المهينة لاختطاف الجنود السبعة فى سيناء، وعرض الفيديو الردىء لهم وهم يطالبون الرئيس بتنفيذ تهديدات مختطفيهم للدولة التى هانت وسهل الهوان عليها، جاءت فضيحة التهديدات الفارغة على الهواء مباشرة فى أثناء نقاش رئيس الجمهورية لأحد أخطر التحديات التى تواجه مصر منذ تسلمه السلطة، ببناء سد النهضة المشؤوم على النيل الأزرق وما سيترتب عليه من خفض حصة مصر من الماء ومن الكهرباء معا. ودار هذا كله فى تواز مع الهجمة الشرسة على الثقافة منذ تعيين الوزير الإخوانى الجديد، وسعيه الحثيث لتنفيذ سياسة الإخوان الثقافية، وما أدراك ما سياسة الإخوان الثقافية. وكلها أمور تتطلب من المتابع ملاحقتها، والانصراف عن مواصلة الحديث عن جمال حمدان ومشروعه. لكنها جميعها فى حقيقة الأمر تردنا إلى مشروع جمال حمدان الكبير، وتدفعنا إلى العودة إلى تذاكر دروسه، وخصوصا فى ما يتعلق بما جرى فى سيناء وأهمية شخصيتها كإقليم جوهرى من أقاليم مصر. لذلك طالبت فى الأسبوع الماضى بضرورة العودة إلى ما كتبه عن سيناء فى تلك الموسوعة كى ندرك مدى خطورة ما دار فيها وما يدور حتى الآن. وأطالب مرة أخرى بإعادة قراءة ما كتبه عن النيل فى نفس الموسوعة قبل أن نشرع فى صياغة الرد على من يريدون النيل من حقنا فيه، وبتشجيع ودعم وتخطيط من العدو الصهيونى البغيض. ولنبدأ بالموضوع الذى وعدت القارئ بتناوله، وهو سيناء التى أفرد لها فصلا ضافيا فى الجزء الأول من سفره الكبير. وسيناء من «سين» إله القمر، ومعناها أرض القمر، وهى كما يقول لنا المتمم الطبيعى لجسم مصر الذى يكتمل به مربعها المنتظم، وهى من هذه الناحية مصر الصغرى أكثر مما هى جزيرة العرب الصغرى (شخصية مصر: ص552). ومن يقرأ ما كتبه عن شخصية سيناء، والكتابة عن شخصية الإقليم هى أعلى مراحل الفكر الجغرافى، يدرك فداحة التفريط فى أمنها، أو تركها مرتعا لإمارات المختلين والإرهاب. وكيف أنه يشكل خيانة عظمى لمصر على المستوى الاستراتيجى والتاريخى معا. فسيناء، تلك السلة المدلاة على كتف مصر الشرقى كما يصفها، تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة الدلتا. وتصل إلى خاصرة مصر كلها حيث إن رأس محمد فيها تقع على نفس خط عرض ملوى فى محافظة أسيوط. فهى كتكوين جغرافى جوهرى بالنسبة إلى جغرافيا مصر كلها، ويشكل ثلث عمقها، رغم أنها لا تشكل إلا ستة فى المئة من مساحتها الكلية. كما أنها تستأثر بما يقرب من ثلث سواحلها (فلها 700 كليو بينما كل سواحل مصر 2400)، وهى لذلك أكثر مناطق مصر جزرية وأقلها قارية. أى أن فى سيناء كيلومترا ساحليا لكل 87 كيلومتر مربع، بينما النسبة العامة فى مصر هى كيلومتر ساحلى لكل 417 كيلومتر مربع. كما أن كتلة سيناء الجبلية الجنوبية التى يصل ارتفاع بعضها عند جبل أبو مسعود إلى 2135 مترا فوق سطح البحر، بواحتى فيران وسانت كاترين فيها إمكانيات أن تتحول إلى جبال لبنان مصر. وكما أن نسبتها عالية من الشواطئ فهى أيضا عالية من الحدود مما يجعل أمنها أساس أمن مصر كلها. وتكاد سيناء جيولوجيا أن تختزل جيولوجيا مصر كلها، حيث تحمل فى طواياها كل عصور مصر الجيولوجية، وعصورا تنفرد بها فوقها. كما تجمع فى صحاريها الصحراء الصخرية التى تسود صحراء مصر الشرقية، والصحراء الرملية الكثيبية التى تميز الصحراء الغربية، كما أنها أغزر مطرا من الصحراوين وأكثرها آبارا وعيونا. فيها أكثر من 250 بئرًا من مختلف القدرات والتدفقات. كما أن الركن الشمالى الغربى فيها مثلث سهل الطينة هو مورفولوجيا جزء من دلتا النيل مما يجعله خصبا للزراعة. ولذلك فهى غنية بالنباتات وتتميز بكثرة أنواعها النباتية (أكثر من 527 نوعا) ربعها على الأقل لا وجود له فى أى منطقة أخرى فى مصر. وقد عرفت سيناء التعدين منذ العصر الفرعونى. ففيها مناجم الحديد والمنجنيز والفوسفات والنحاس والفحم بمئات الملايين من الأطنان، التى يمكن أن توفر لها اكتفاء ذاتيا من الطاقة الكهربائية لو صنعت. ومن هذا ترتبط أكثر اقتصادياتها بالزراعة والرعى والتعدين والصيد. ثم زاد عليها النفط والسياحة فى العقود القليلة الماضية. وهى فضلا عن أنها مصر الصغرى كما تُدعى، فهى جيوسياسيا جوهرية لمصر. ليس فقط لأنها تعزز موقعها الجغرافى وتجعلها حلقة وصل بين قارتى آسيا وإفريقيا، فبدونها تصبح مصر مجرد دولة إفريقية، لكن أيضا لأنها جغرافيا جزء أساسى من مصر يمتد طبيعيا إلى ما وراء خليج السويس. فبرغم أن خليج السويس أطول (275 كم) من خليج العقبة (180 كم) وأعرض حيث يعادل ضعف عرض خليج العقبة، وضعف مساحته بشكل عام، فإن خليج العقبة بالغ العمق (1000 متر عمقا) أى أعمق أكثر من عشر مرات من السويس (70 مترا) الذى يعد ضحلا إلى حد كبير. وهذا ما يجعل العقبة حدا حقيقيا وصارما لمصر. فهى المفصل أو العقدة الطبيعية التى تربط إفريقيا بآسيا، ومصر بالمشرق العربى. ثم هى أرض المعركة فى الصراع العربى الصهيونى. لذلك يدعو إلى القضاء على عزلتها التقليدية فى المستقبل، ودمجها فى كيان مصر العضوى وإدخالها فى كهربائه الحيوية والحياتية. والمواصلات والتصنيع والزراعة والتعمير وهى أدوات هذا الدمج الرئيسية». ويتحدث عن قرار بمد ثلاثة خطوط حديدية فيها، كما يدعو إلى نقل الصناعة إلى مناجمها بدلًا من نقل خاماتها للتصنيع فى الوادى. وذلك للقضاء على عزلة سيناء بدلا من زيادة عزلتها. ألا يكشف لنا جمال حمدان هنا عما يجب عمله فى سيناء، بدلا من تركها نهبا لخلل المختلين من أنصار حماس وصنائعها كى يقيموا فيها إماراتهم الوهمية، ويجعلونها لقمة سائغة لمخططات العدو الصهيونى؟