كتب - محمد شرف الدين «فوضى مطلقة».. هكذا وصفت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، اليوم الأربعاء، قصف المدفعية التركية لمواقع "وحدات حماية الشعب الكردي" في ريف حلب الشمالي، المتواصل منذ 4 أيام، والذي بدا أنه يزيد من تعقيد الوضع المعقد أصلا في شمال سوريا، الذي صار بدوره أشبه بفوهة بركان مشتعلة توشك أن تقذف بحممها لتغرق العالم بأسره في «فوضى مطلقة». بدأ كل شيء عندما اندفعت قوات النظام السوري، مدعومة بعناصر مسلحة من إيران وحزب الله، في هجوم بري واسع النطاق على ريف حلب الشمالي، تحت غطاء جوي روسي، مطلع الشهر الجاري، بهدف عزل المدينة - التي يسيطر مسلحون معارضون على نصفها الشرقي - عن تركيا، وقطع خطوط إمدادهم، تمهيدًا للاستيلاء على كبرى المدن السورية، وتصفية المعارضة تمامًا في شمال البلاد، والتي تتمثل قواها الرئيسية في جبهتي "النصرة"، و"أحرار الشام"، الإسلاميتين، بالإضافة إلى "الجيش الحر"، الذي يوصف ب"المعتدل". في الثالث من فبراير الجاري، أعلن مبعوث الأممالمتحدةلسوريا، ستافان دي ميستورا، تعليق محادثات السلام بين أطراف النزاع إلى 25 من ذات الشهر، على خلفية التقدم الذي أحرزته قوات بشار الأسد في شمال حلب، وبعد نجاحها في فك الحصار عن قريتي نبل والزهراء الشيعيتين، ما أدى بدوره إلى قطع خطوط إمداد المعارضة، وهو ما مثل أيضًا خطوة واسعة على طريق تطويق حلب. بدا أن قوات النظام السوري ترغب في الوصول إلى الحدود التركية التي لم تطأها أقدامها منذ عام 2013، عبر السيطرة على مدينة أعزاز الإستراتيجية شمال حلب.
هجوم ال«YBG» كان هذا قبل أن تفاجىء وحدات حماية الشعب الكردية "YBG" وحلفاؤها الجميع بهجوم خاطف على الريف الشمالي لحلب أيضًا، في 11 فبراير الجاري، انتزعت خلاله السيطرة على قاعدة منج الجوية من جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة وفصائل معارضة أخرى، مواصلةً هجومها غربًا نحو أعزاز، وهو ما أشعل البارود في فوهات المدفعية التركية التي بدأت في قصف الميليشيات الكردية لوقف تقدمها. تبلور الموقف التركي من النفوذ الكردي في شمال سوريا منذ فترة ليست بالقصيرة، حيث صدرت العديد من التصريحات من مسؤولين عسكريين وسياسيين أتراك، حددوا فيها هذا النفوذ بمناطق شرق الفرات ومنطقة عفرين، محذرين الأكراد من التحرك شرقًا انطلاقًا منها، أو عبور نهر الفرات نحو الغرب. وهو ما بدا واضحًا في مطالبة رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، للميليشيات الكردية بالانسحاب من كافة المناطق التي سيطرت عليها خلال الأيام الماضية، متعهدًا بجعل قاعدة منج الجوية "غير صالحة للاستخدام" في حال عدم انسحاب الأكراد منها. وتُعد وحدات حماية الشعب الكردي "YBG" الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني "PYD"، وتنخرط حاليًا مع "قوى عربية"، أهمها "جيش الثوار"، فيما يسمى بتحالف "سوريا الديمقراطية"، ولكن يرى الكثير من المراقبين أن هذا التحالف ليس أكثر من ستار للأطماع الكردية، حيث تبلغ نسبة المكون الكردي فيه 90% مقابل 10% فقط للعرب. يصنف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وحلفاؤه أنفسهم في إطار المعارضة، وهو ما يعتبره البعض محل شك، نظرًا لعدم انخراط الأكراد في أي معارك ضد النظام السوري منذ فترة كبيرة، بالإضافة إلى التنسيق المشترك بينهم في إدارة محافظة الحسكة، شمال شرق البلاد. وجاء التقدم الأخير ل"YBG" - تحت غطاء جوي روسي - ليثير تساؤلات أكثر حول موقف الأكراد من النظام، خاصةً أنه يأتي بالتزامن مع هجوم تشنه قوات بشار الأسد في ذات المنطقة. القيادي في "جيش الثوار"، المنخرط في تحالف "سوريا الديمقراطية"، أحمد العمر، قال إن الهجوم الذي أطلقه التحالف من المناطق الكردية في عفرين "شمال غرب البلاد" يهدف لفتح جبهة للقتال مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، مؤكدًا أن التحالف "سيهاجم قوات النظام التي تتحرك في ذات المنطقة في حال اعترضت طريقه"، وهو ما بدا محاولة أخرى للظهور في صف المعارضة.
«أعزاز» خط تركي أحمر "إذا اقتربوا من جديد سيواجهون بأقسى رد فعل.. لن نسمح بسقوط أعزاز".. هكذا صرح رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، محددًا الهدف الإستراتيجي لبلاده في هذه المرحلة على الأقل. بدا التحذير التركي موجهًا للجميع، فأنقرة تقول إنها لن تسمح أبدًا بسقوط المدينة التي تسيطر عليها حاليًا فصائل المعارضة، والتي قفزت فجأة إلى واجهة الأزمة السورية ككنز إستراتيجي ثمين يرغب الجميع في اقتناصه، ويرجع ذلك لعدة أسباب: أولًا: تبعد أعزاز 8 كيلومترات فقط عن الحدود التركية، وتحتوي على معبر "باب السلامة" الحدودي الذي يعد شريان الحياة الرئيسي للمعارضة في شمال سوريا. ثانيًا: في حال سقوط أعزاز في قبضة الأكراد - أو النظام - فستنقطع أي صلة برية لتركيا بجارتها الجنوبية، وستصبح أنقرة بعيدة تمامًا عن التأثير في الأزمة السورية. ثالثًا: تعد أعزاز بوابة "المنطقة الآمنة" المحتملة التي ترغب أنقرة في إنشائها منذ بداية الحرب الأهلية السورية، وهي الرغبة المهددة بالتبخر إذا سقطت المدينة في أيدي أي قوات معادية لتركيا. رابعًا: في حال نجحت ميليشيات "YBG" في السيطرة على أعزاز والمناطق المحيطة بها فسيصبح الشريط الحدودي مع تركيا بأكمله في قبضة الأكراد، وهو ما سيمثل ضربة قاسية لتركيا التي تخشى من الصلات الوثيقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري "PYD"، وحزب العمال الكردستاني التركي "PKK"، الذي يخوض مواجهات شرسة ضد الحكومة التركية منذ عام 1984. خامسًا: الهجومان اللذان يشنهما الأكراد والنظام في شمال حلب يرشحان أعداد اللاجئين السوريين في تركيا إلى الازدياد، حيث تتوقع أنقرة أن يؤدي سقوط حلب إلى نزوح نحو 600 ألف لاجىء آخر باتجاه الحدود.
موقف «غامض» للولايات المتحدة أثارت واشنطن غضب تركيا وفصائل المعارضة السورية القريبة منها، مثل "الجيش الحر"، بصمتها على تقدم الميليشيات الكردية المدججة بالأسلحة الأمريكية في شمال البلاد، حيث لم تفعل الولاياتالمتحدة حتى الآن أكثر من مطالبتها للأكراد ب"عدم استغلال الموقف المعقد والسيطرة على مناطق جديدة"، فيما طالبت تركيا بوقف قصفها العابر للحدود، وبأن يركز الطرفان على التعامل مع التهديد المشترك المتمثل في "داعش". هل يشعل ريف حلب الشمالي حربًا كبرى؟ رغم تهديد داود أوغلو لروسيا ب"رد تركي حاسم للغاية" في حال استمرت في التصرف كمنظمة إرهابية، فإن هذا التصريح لا يحظى بالأهمية الكبرى التي يكتسبها الوضع الذي يزداد تعقيدًا على الأرض في الفترة الأخيرة، والموشك أن يتحول إلى "معادلة صفرية" لا حل لها سوى نيران الصواريخ وهدير الدبابات. يجمع الكثير من المراقبين على أن فتيل الحرب بين تركياوروسيا لم يكن موشكًا على الاشتعال طوال مدة الأزمة السورية مثلما هو الآن، فأنقرة باتت تشعر بتهديد حقيقي متمثل في الميليشيات الكردية المدعومة بالقاذفات الروسية، كما تنظر بذات الخطورة - وربما أقل - إلى قوات بشار الأسد المتقدمة شمال حلب، والتي لا يبدو حتى الآن إذا كانت ستواصل تقدمها حتى الحدود التركية، أم أن هذه المهمة قد تُركت للأكراد في إطار اتفاقية برعاية روسيا حول توزيع المهام والنفوذ، على أن يكرس النظام جهوده في معركة حلب. ربما كان من غير المجدي محاولة توقع ما ستسفر عنه الأيام المقبلة، نظرًا لتعقد الوضع وتشابك المصالح وتعارضها بين العديد من الأطراف على "رقعة شطرنج" ضيقة للغاية، إلا أنه قد لا يكون من قبيل المبالغة إذا رأى البعض أن ما يدور في شمال حلب الآن قد يترك أثرًا كبيرًا على مستقبل المنطقة.. وربما العالم بأسره.