فى أمريكا قطاعات محافظة رجعية يتعاملون بطريقة ماكرة.. ويصعب كشف حقيقتهم الرجل عندنا لا يكتب عن الشيخوخة حتى لا يعترف بأنه يرتعش أو يقع عند الوقوف أو خلال المشى أو أنه ضعيف جنسيًّا الآن يجلس مستريحا على ناصية العِقد التاسع.. يتأمل تجاربه بِدُرْبَةِ وسماحة.. وبينما يبدو هذا للبعض سنَّ الدَّعَة والركون للراحة، لم يستسلم هو لهواجس الشيخوخة، وبدلا من ترقب ذاك الضيف الحتمى الصارم استمسك بالإبداع كمعادل موضوعى للحياة، وقدم لنا مؤخرا روايته الموحية «رقصة أخيرة قبل الموت»، عن رجل تسعينى تزوج فتاة تصغره بأكثر من خمسين عاما، فصنعا معًا حالة إنسانية تُوسِّع مدى الشوف والحيوية، وتُشيع البهجة فى النفوس، وتُبدِّد الأوهام السائدة عن مقتضيات المراحل العمرية، وتعكس قدرة مدهشة على تواصل القلوب الطيبة والعقول السليمة، وتتجاوز الشكلانيَّة لصالح المضامين والقيم. من يعرفه شخصيًّا لا يَعْجَب.. فهو المشغول بالحركة الطلابية منذ أربعينيات القرن الفائت إلى الآن، والمعنىّ بقضايا الحريات والديمقراطية، والمشغوف بالأدب والإبداع أبدا. دَعَتْهُ أحلامه من أجل الناس إلى مغادرة درب الطب المزدحم بمرضى لا يدركهم الشفاء، إلى براح السياسة لعلها تمكِّنه أكثر من تخفيف آلام المجتمع إجمالا، فمدى الفكر أوسع وأعمق. ومن يتابع حياته وإبداعاته سيقف على تجربة نضالية منبسطة، ظلمها حياؤه البادى، لم تجد مؤسسة تدعمها سوى إخلاصه هو لقيمة الإنتاج المتواصل، وتعقبه مواجع الفقراء الذين عانوا العسف والانتهاك عبر التاريخ حتى لحظتنا هذه!. وفى أعماله يتفادى الصخب الأيدلوجى، ويُضمِّن رُؤاه طيّ الأحداث والشخوص بصوت خفيض، لتتسلل مقاصده إلى ذهن المتلقى بهدوء، وتتأبى على الضعف إذا استحكم الهوان، وتطنّ الأفكار فى الرؤوس حتى تجد طريقها إلى وعى القارئ، وهذا من أجَلِّ أهداف الإبداع على تعددها. - ربما لم تنصفه السياسة كما تمنى. لكن الأدب أعانه على امتلاك رؤية أشمل، وحلما أجمل، ودأبا أوصله إلى ناصية التسعين مطمئنا، لنجد أمامنا مشروعا فكريا وإنسانيا نبيلا إسمه « شريف حتاتة»!. ■ الشيخوخة عادة تعنى لكبار السن وَهَن العِظام وقِلة النشاط وضعف الذاكرة وتدهور القوى، كما قلت فى روايتك « رقصة أخيرة قبل الموت»: « أصبحت كل حركة أقوم بها تتطلب جهدا مضاعفا، وتسبب لى آلاما فى الساقين أو فى الظهر، أن أقوم من السرير فى الصباح أو من جلستى على المكتب، أن أميل لألتقط شيئا وقع منى على الأرض،أن أرتدى جوربى أو حذائى أو بنطالى أو أحكم غلق أزرار القميص فترتعش أصابعى،لكنى ظللت مصرا على مواصلة كل ما أستطيع أن أن أفعله، حتى وإن كان يحتاج إلى جهد مضن»، ومقاومتك لكل هذا فى الواقع ملحوظة، ونشاطك الذهنى ما يزال فاعلا، فهل هى قدرات طبيعية، أم تدريب وحرص، وهل المشتغل بالأعمال الذهنية يتمتع بقدرات وحيوية أفضل من أصحاب الأعمال العضلية؟ - فيما يتعلق بى هناك عدة عوامل، عوامل وراثية لأن أمى كانت قوية ونشيطة وواجهت ظروفا صعبة حين انتقلت سنة 1923من إنجلترا إلى مصر لتعيش وسط أسرة إقطاعية، خصوصا أن والدى لم يكن زوجا مثاليا، وهذا لايعنى أنه كان سيئا فى النواحى الأخرى، ووالدتى علمتنى أشياء مهمة فى الحياة منها أن يكون الإنسان منتجا، وعلمتنى كره المظاهر، وكانت تمنعنى عادة من إطالة الوقوف أمام المرآة، وكانت صبورة، ومنفتحة الذهن أكثر من أغلب النساء حولها، وطموحة وظلت طوال عمرها تشعر بالخسارة لأنها تزوجت ولم تحقق أحلامها، لذا وضعت كل آمالها فيّ، وكنت ابنها المفضل، ربما كل هذا سبب قوة العنصر الوراثى، أما العنصر الثانى فهو أن يكون للإنسان مشروعا يرتبط به، فى مجال يحبه ويجيده ويعطيه وقتا كافيا، ويوقف عليه حياته لأن هذا يمنحه قيمة فى الحياة، وطوال عمرى أنظر للعمل على أنه مشروع عكس زملائى من الطلاب، وأذكر أنه كان فى جيلنا حلم ( الخمسة عين ) أى العيادة والعزبة والعمارة والعربية والعروسة، لكن هذا لم يخطر ببالى أبدا فقد كنت أفكر بالعمل كطبيب فى القرية لأخدم الناس وأعالجهم وأكون محبوبا منهم، لكنى بعد تخرجى وممارسة الطب استوقفنى أن الناس الذين أعالجهم لا يشفون، وأن الصحة مرتبطة بأشياء أخرى كثيرة مثل الطعام والسكن الثقافة وهذا يتطلب مستوى من الحياة، وكل المرضى الذين رأيتهم فقراء طوال الوقت كانوا يموتون عادة، وكان هناك أطباء مهرة لكنهم يتعاملون بطريقة سيئة، وأذكر أن أستاذا كان يجعل نائبه يحمل له فنجان القهوة، وكل هذا جعلنى أرى أن نطاق الطب ضيق، فذهبت إلى السياسة، وكانت بطبيعة الحال جزءا أساسيا من حياتنا، فقد كان الاستقلال المشروع الوطنى لدى الجميع، وأصبحت السياسة مشروعى لأحقق ذاتى، وأنا أشعر أن اليساريين يكذبون حين يقولون أنهم يعملون من أجل العمال والفلاحين، لكنى أصدق أن هذا عملهم بالسياسةو يرضيهم ويحقق ذواتهم، وحين خرجت من السجن بحثت عن المجالات السياسية ولم أجدها، والدكتورة «نوال السعداوي» لعبت دورا مهما جدا بالنسبة لى فى هذا، وبجانب الجزء الوراثى هناك المشروع الشخصى فى الحياة، والتعلم من التجارب المختلفة. لكن أهم شئ فى كل هذا أن يكون للإنسان مشروعا محددا فى حياته. ■ هناك صراع فى الرواية بين التفكير فى الموت وحيوية الراوى جسديا وذهنيا، مقاومة الوهن، والبقاء فى سياقات الحياة المتجددة، فهل يكفى الحب لتحقيق هذا، أم يحتاج لحشد كافة الخبرات السابقة بجانبه؟ الحب عنصر مهم جدا ولعب دورا مهما فى حياتى، وزيجاتى الثلاث، وأنا فى الحقيقة كنت محظوظا فى الثلاث مرات لأن الحب يعطى قوة دافعة جديدة للحياة، فالإنسان عقل وعواطف، وشحنة طاقة، والحب يجدد أى إنسان سواء كان حب المرأة أو أى شئ فى الحياة، لكن الحب وحده لا يكفى، لابد كما أسلفت أن يكون هناك المشروع، وهو عندى الكتابة التى لا يمكن تصور الحياة بدونها الآن، فمثلا حين أتوقف بين روايتين تكون الحياة تعيسة جدا، وإن طالت تلك المدة لا أكون فى حالة جيدة، فالحيوية تتكون من أشياء كثيرة أحدها الحب لكنه لا يكفى وحده. ■ عشت 90 عاما زاخرة بالتجارب الغنية سياسيا وثقافيا وإبداعيا، من جذورك البرجوازية ودراستك الطب وممارسته، إلى الاشتغال بالسياسة، واعتناق الاشتراكية، واعتقالك لسنوات طويلة، وهروبك من الس-جن, ومنفاك بفرنسا, وعملك موظفاً بالحكومة، ونصيرا دؤوبا للمرأة, وخب-يراً بالأمم المتحدة, وأستاذاً زائراً بجامعات أميركية، وثلاث زيجات، وشغف بالفنون، ورحلات عبر بلاد عديدة، وبالتوازى مع هذا كله الإخلاص للأدب، وفعل الكتابة، فكيف ترى هذا المشهد الحاشد من فوق تسعة عقود عامرة؟ - كتابة سيرتى الذاتية «النوافذ المفتوحة» منحتنى فرصة استرجاع حياتى، وفهم نفسى أكثر، فهناك كثيرون يكتبون سيرهم الذاتية لكنها ليست سيرا صحيحة، وحين أنظر لحياتى الآن أشعر برضا أحيانا فقد عشتها بالعرض، أى أننى عشت تجارب كثيرة جدا، وحياتى كانت جيدة، لكننى فى أحيان أخرى أكون غير راض لحد كبير، وأحس أننى إنسان عادى، ولا أقول هذا من باب التواضع، لكن إذا تصادف واستقبلنى الناس فى أى مكان بترحاب كبير أتنبه لكونى معروفا، وهذا يفسر أننى إبن تجاربى المختلفة، السجن والمنفى، وكما عشت هذه الأشياء المهمة أفعل أشياء عادية مثل زراعة الجوافة أو تفصيص البسلة فى البيت أو رفع الزبالة من حول بيتى فى القرية، وهذا أعطى اتساعا لحياتى وحرية فى تجريب كل شئ. أحيانا أقرأ إحدى رواياتى السابقة فتعجبنى، وأخرى أتعجب كيف كتبتها. التشابه بين البنى آدمين كبير، والأبطال فى حياتهم أشياء كثيرة عادية، لكن الناس يصنعون منهم أبطالا، وأنا فعلت أشياء جيدة، لكن كان من الممكن أن أكتب روايات أفضل، وأن أتصرف بطريقة أفضل، وأن أكون منتجا أكثر، لكن بشكل عام أنا راض، وأكثر شئ يرضينى فى حياتى أننى لم أدخل ألاعيب السياسة أبدا، وظللت متمسكا بأفكارى، فقد كنت اشتراكيا وما زلت، ومستعد لدفع ثمن جديد من أجل هذا لو أن هناك ثمنا سيدفع، ولم أشارك فى أى فساد، وإن كنت عملت فسادا صغيرا مثلما يفعل الناس، وهذا يجعلنى متصالحا مع نفسى. ■ «متاعب الشيخوخة» تعبير سائد متعارف عليه، لكنى رأيت فى جانب من روايتك ما يمكننى تسميته «مباهج الشيخوخة»، فهل هى صحيحة وموجودة على الأرض كما ظهر من كتابتك، أم أن المخيلة الأدبية تشطح بعض الشئ بعيدا عن مرارات الواقع ؟ - الشيخوخة ليس فيها مباهج كثيرة، فهى مرحلة صعبة، والمعاناة فيها ليست بسيطة، ولذلك أنا لا استخدم تعبير «مباهج الشيخوخة»، وفيه جزء من المخيلة، كلنا نعيش الأوهام، لكن بقدر الإمكان لا نحس أنها أوهام، فالحياة معظمها أحلام وأوهام وأمل، ولا أحد يستطيع أن يعيش من دون أحلام، ويمكن أن يقول الواحد لنفسه « يا سلام.. عندى 90 عاما»، لكن ميزة الشيخوخة أنها تأتى بعد مختلف تجارب الحياة، فيصبح الإنسان قادرا على السيطرة على نفسه وحياته، ويوجهها ويخطط لها، ويستفيد من أخطائه وبالتالى يستطيع العيش بالمعنى الفكرى والمعنوى بطريقة أفضل، والمشكلة إن هذا النضج يأتى متأخرا دائما، ويمكن أن يقول أى شخص لنفسه ياخسارة.. لو كنت أعرف هذه الأشياء فى سن مبكرة!!، لأن النضج يجئ بعد فوات الأمان حين تقل القدرات، ويبدو أن اجتماع النضج والقدرة فى وقت واحد صعب، وهنا أتذكر حكاية مهندس معمارى برازيلى شهير صمم العاصمة البرازيلية الجديدة وكان رفيقا للرئيس السابق «لولا دى سيلفا» فى الحزب الحاكم وعاش حتى 104 سنوات وكان يذهب إلى مكتبه فى هذا العمر ويصمم رسوما معمارية جميلة، وحين سألوه عن مباهج الشيخوخة قال أنها «شئ مزعج». ■ عنوان الرواية «رقصة أخيرة قبل الموت» مُبهج ومُقبض فى آن، فالرقص فرح وتجدد، والموت خشية مؤلمة من الغياب الأبدى، فما الرابط هنا بين النقيضين، وهل الأدب وحده يحتكر هذه المقدرة على جمع الأضداد؟ الحياة كلها متناقضات ونعشها طوال الوقت، نتحدث عن الموت ونرفضه، ونرقص أحيانا فى حالات الحزن الشديدة، مثل «رقصة زوربا»، والإنسان يقاوم الموت ويحرص على عيش حياته حتى آخر لحظة، حتى المريض يسعى لتلقى العلاج وإن كان الشفاء ميئوسا منه، والرقص هنا هو الشئ الذى يبرز نقيضه، فحين نشعر باقتراب الموت يزداد تمسكنا بالحياة. ■ موضوع الرواية يبدو جديدا على الأدب العربى، وإن كان مطروقا فى الأدب الغربى، فهل لديهم أسباب غير الحرية تجعلهم أكثر قدرة فى التعبير عن هذه الموضوعات الشائكة والشائقة، مثل رواية «الرجل البطيء» للأديب «جون كويتسي» حائز نوبل، وهى برأيك من أهم الأعمال التى تناولت الشيخوخة بعمق ووعي؟ أنت هنا تقصد الحرية بكل تفاصيلها فى السياسة والحياة الخاصة، فى الغرب عندهم حرية سياسية فى الظاهر لكنى أرى أن جزءا كبيرا منها زائف وغير حقيقى، لكن عندهم حرية كبيرة جدا فى الحياة الشخصية وهذه إحدى التوليفات الخطيرة التى نجح فيها النظام الرأسمالى بين الحرية الشخصية والحرية العامة، أى فرد يستطيع أن يرقص ويغنى، ويمارس كل تفاصيل الحرية لأنهم تخلصوا من القيود الوراثية والاجتماعية والطبقية لأن المجتمع تغير، إنتقل من ريعى إقطاعى (متخلف) كان مليئا بكثير من الجمود والموانع، إلى مجتمع صناعى متقدم علميا وهذا لا يسمح بالجمود، لكن الأهم أن المجتمع تغير وتطور بجهود المفكرين والمبدعين والفن، والمجتمع عندنا متجمد ويعانى قيودا كثيرة جدا، وفيما يتعلق بالأدب عندنا فهو لايزال عاجزا عن تناول أشياء معينة بحرية كاملة، فالذكورية مثلا ما زالت تلعب دورا كبيرا، لأن الرجل الشرقى لا يكتب عن نواحى ضعفه بسبب هوس السيد، فهو الذى يكسب ويعطى الأوامر للجميع ولديه تصورات عن نفسه أنه مهم وآمر وأفكاره الأصح، وبالتالى لا يكتب الأشياء التى تكسر هذه التصورات وإذا حدث نظنها عيبا، والشيخوخة من أهم الأشياء التى لا يكتب عنها الرجل المصرى أو العربى، فلا يعترف أنه بدأ يرتعش، أو يقع عند الوقوف أو أثناء المشى، أو أنه ضعيف جنسيا، أو إذا رفضته امرأة، لن يعترف. وأنا عشت فى أمريكا لسنوات، وأعرف أن هناك قطاعات محافظة ورجعية لكنهم يتعاملون بطريقة ماكرة، وكشف حقيقة الإنسان عملية صعبة هناك، وهذا لا يعنى أننى معجب بالحرية الشخصية كما تمارس فى الغرب، فالرأسمالية تعطيهم هذه الحريات لتشغلهم بعيدا عنها. ■ هل لعب التلقى دورا فى احترافك الأدب، أى هل شجعك ترحيب الناس بأعمالك على الاستمرار فى الإبداع، أم أنها الموهبة الكامنة التى لم تنتبه لوجودها إلا بعد «الإنفجار الإبداعي» كما يسميه البعض ؟ - ظللت لسنوات تقريبا بدون تلقى، أو تلقى محدودا أو نادرا جدا، وأذكر أن « علاء الديب» تحمس كثيرا لسيرتى الذاتية سنة 93 ولرواية «الشبكة»، وكان يلوم زملاؤه لعدم كتابتهم عنها، وكذا « الطاهر مكي» كتب أيضا عن السيرة الذاتية، والحقيقة أننى كنت بطبعى إنطوائيا، وزواجى الأخير نفعنى فى التغلب على هذه الإنطوائية، عموما النقد والكتابة فى بلدنا يهتم أكثر بالمشاهير وأصحاب العلاقات القوية، وأنا لم أُكوِّن علاقات، ولا أذهب إلى أحد، وأعتقد أن حبى للكتابة هو الدافع الأساسى، أنا منتج بطبعى، أكتب فى السينما، ومجالات أخرى، والحقيقة أن زوجتى « أمل الجمال» لعبت دورا مهما على الفيس بوك فى الدعاية لأعمالى طوال الوقت.