تشاء الأقدار أن يُصادف اليوم ميلاد زهرتين من بستان الربيع المصري، هما أيقونتي الحرية وفراشتي ميدان التحرير، "شيماء الصباغ" و"ماهينور المصري"، جمعت بينهما أحلام الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، التي لازالت تبحث عن نقطة ضوء وسط بين عتمة الزنازين، فرقت بينهما حواجز السجن، وسنوات الاحتجاز، لكن لم تفقدا إيمانهما في الثورة، وتغيير الوطن نحو الأفضل، وبارقة مستقبل ليس قاتمًا كالحاضر. عبر نافذة حديدية صغيرة على بابها، يرابط سجان قوي البنيان، مكلف بحراسة فتاة في ربيع العمر، لم تغير الشهور خلف القضبان من بريق ضحكتها الوردية، وابتسامتها المزروعة بالأمل، التي لا تُفارق صفحات وجهها البريء، لتعلن أن "بكرة أحلى"، أو تُطفئ من نور عينيها المشعة بالحرية؛ لتُلجم سيف لسانها المسلول دائما على طيور الظلام، والمعجون بصيحات الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين الكادحين، والباحثين عن العدالة الغائبة. تواجه الناشطة الحقوقية، التي يُلقبها أصدقاؤها والمقربين منها ب"ماهي الحرية"، نظرة من قيدوها بالسخرية الضاحكة، عبر إخراج لسانها لشخوص نظام أشد خوفًأ وترقبًا لمصيرهم المحتوم، قبل أيام من حلول ذكرى ثورة 25 يناير الخامسة. من خلف أسوار سجن النساء بدمنهور، التي لا تخشاه ماهينور المصري، كما كتبت ودونت أكثر من مرة "إحنا مبنحبش السجون، بس مش بنخاف منها"، يُطفئ اليوم الإثنين رفاق "ماهي" في الحلم والثورة، شموع عيد ميلادها الثلاثين، الذي تقضيه في عُزلة وبرد الزنزانة، بعيدًا عن أهلها وأصدقاؤها المقربين، وهي المحامية المكرمة دوليًا، والمحبوسة على ذمة قضية تظاهر سلمي أمام قسم شرطة الرمل بالإسكندرية، تضامنًا مع شهيد التعذيب خالد سعيد وزملائها المحامين المحبوسين عقب اعتصامهم داخل القسم نفسه. في عالم آخر يخلو من الظلم والوجع، تسكن رفيقتها في الحلم والميلاد، شيماء الصباغ، الباحثة هي الأخرى عن العدالة، للفقراء والمهمشين، وكان ل"شهيدة الورود" أن تحتفل بعيد ميلادها الثالث والثلاثين، ولعلها تهنأ وهي في سماء مكتوب فوق بابها "لا ظلم اليوم"، في أرض يحكمها العدل، ويوزع صكوك نعيمها مليك مقتدر، بعد أن دفعت ضريبة ذلك حياتها الغالية، التي قدمتها على باقات ورود معطرة بأرواح الحرية، هدية لأرواح شهداء الثورة الأبرار. من شيماء الصباغ إلى ماهينور المصري، هناك من يهربون حين تُقتل الوردة وتُحبس الحرية، وهناك من يفتحون صدورهم للرصاص ويواجهون برد الزنازين وقسوة السجان دون خوف أو تراجع وهروب؛ لأجل مبادئ عاش لأجلها ومات في سبيل تحقيقها. على ظهر تذكرة الرحيل، أرسلت "الصباغ" آخر رسائل الوجع عبر ديوان الوداع، وكتبت في آخر حديث: "البلد دي بقيت بتوجع ومفيهاش دفا.. يارب يكون ترابها براح وحضن أرضها أوسع من سماها".. حروف تقطر وجعًا وكلمات مسكونة بالحلم، حتى في آخر لحظات عقدها الثالث، قبل أن تُفارق أرض الوطن بخرطوشة ميري مقذوفة من بندقية ضابط أمن وطني قاتل. المفارقة العجيبة أن الدكتور هشام عبدالحميد، المتحدث السابق باسم مصلحة الطب الشرعي، وصاحب التصريح القنبلة بعد مصرع الناشطة العمالية شيماء الصباغ، والذي قال فيه إن نحافة جسدها هي السبب في وفاتها، متأثرة بطلقات الخرطوش، يتم تعيينه رئيسًا للمصلحة، عبر قرار رسمي ممهور بتوقيع وزير العدل المستشار أحمد الزند، في حين لازالت رفيقتها في الحلم والثورة تُعاني من عتمة السجن، التي تفتقر لأقل متطلبات الحياة الآدمية، فضلًا عن تشويه قنوات إعلام النظام لكل من يمت إلى الثورة بصلة، ويدافع عن الحقوق والحريات لهم، للتقرب درجات أكثر في رحاب السلطة .