لا أشك للحظة أن الحرب الدائرة بين الإخوان المسلمين وحلفائهم من ناحية، وبين القوى الوطنية من ناحية أخرى، هى حرب ثقافية بامتياز. فما يحدث فى الشارع المصرى حاليا هو تجلٍّ لحالة رفض الجسد المصرى بثقافته الموروثة والمكتسبة، للجسم الغريب الدخيل عليه والمسمى ب«الإخوان» المحمل بثقافة الصحراء البدوية. فى أى صباح وفى أى كلية طب فى المعمورة، يذهب طالب الطب إلى معمل الباثولوجى (علم الأمراض) ينتظم أمام الأستاذ الذى يتحدث فى لهجة باردة عادة وحاسمة فى نفس الوقت، يشرح له حرب الأجسام الغريبة التى تصيب الجسم البشرى من بكتيريا أو فيروسات، وكيف تخرج جيوش الأجسام المضادة من كرات دم بيضاء وخلايا ليمفاوية وأنواع أخرى من الخلايا، لتدخل مع الجسم الغريب فى معارك شرسة، تتحطم فيها خلايا نافعة وأخرى ضارة، وتتمدد فيها الأوعية الدموية، وتفرز فيها مواد كيميائية، ويخرج الصديد وبعض الخيوط الليفية. ساعتها يشعر الجسم بالوهن وبالاحمرار والاصفرار والألم والحكة واللسعة. يستمع الطالب لأستاذه، فيتبادر إلى مخيلته أنه عندما يفحص أحد الأنسجة تحت الميكروسكوب ليرى تفاعل الجسم الغريب مع الخلايا والأجسام المضادة، فإنه سيرى جيشين، أحدهما على اليسار، يرفع رايته المميزة، والآخر على اليمين، يسير وراء راية أخرى، وأنه ببساطة وبسهولة سيتعرف على جيش الخير وجيش الشر، ولكن للأسف حين يضع الطالب عينه اليمنى أو اليسرى على عدسة الميكروسكوب ليرى المشهد كما توقعه، يكتشف أنه يرى مشاجرة عنيفة بالسلاح الأبيض، أو حربا شرسة بأسلحة الدمار الشامل، ولا يكاد يعرف أين الخلايا الغريبة وأين الخلايا المضادة. إنها أرض محروقة خربة، يتداخل فيها العدو والصديق، تموت فيها بعض الخلايا البيضاء ويعلوها الصديد، وأيضا تتكسر الخلايا الغريبة، ويموت بعضها ويقاوم آخر. المشهد العام متداخل ويبعث على الخوف والدهشة والارتياب. ينظر الطالب إلى أستاذه وفى عينيه كثير من التساؤلات، فيفهم الأستاذ على الفور، ويبدأ فى شرح الدرس. كلنا أحببنا ثورتنا وحشودنا فى 25 يناير، كنا فسطاط الخير أمام فسطاط الشر، جيش فى الميادين بملابسه الكاجوال وبعضنا ملتحٍ بجلابيب بيضاء أو ملونة، وجيش آخر يسكن قصور الرئاسة والدولة، ومعه عساكر الداخلية بخراطيم المياه والخرطوش وقل ما شئت من آلات القتل والقمع، وعندما انتصر الخير واندحر الشر «كما كنا نعتقد فى مخيلتنا النظرية»، انقسم الجيشان على بعضهما، وتوالت الانقسامات يوما بعد يوم، وتنوعت الأشكال والمضامين، تماما مثلما كان شعور الطالب بعد رؤيته تداخل خلايا الخير والشر. واستمرت المعركة حتى نجحت جماعة الإخوان فى الاستحواذ على السلطة والدستور، ولكن جسم المجتمع وفى لحظة كشف مباغتة، انتفض فيها الجهاز المناعى، كأنه يواجه جسما غريبا ويجب طرده من سائر عموم الجسم، أو إذابته فى السوائل بعد معادلته كيميائيا. وتتبدى لنا هذه الانتفاضة فى شكل مظاهرات وكرات لهب وتكسير وصراخ وقتل وجنازات هنا وهناك. إنها تفاعلات الجهاز المناعى التى تشبه اهتياج الجلد والوخز والرعشة وتشنجات الصرع. وعندما يخرج الأزهر علينا وقبله عدد كبير من المبادرات الداعية ل«نبذ العنف»، بالضبط مثلما يخرج علينا «كونسلتو» من الأطباء بوثيقة رفض الألم، أو رفض الرعشة أو صديد «الغانغرينا». بالتأكيد لن يخرج علينا «كونسلتو» الأطباء بمثل هذا الجهل، لأنهم لا يعرفون أنها مجرد أعراض لأمراض لها أسبابها العلمية، ولكن فى زمن الثورات والاضطرابات والفورات، يعجز الحكماء والسياسيون عن إدراك القانون العلمى، الذى يحكم هذه الظواهر، ولهم كل العذر فى ذلك، فهم يشبهون علماء الفيزياء عندما يطلب منهم معادلات دقيقة لشدة الزلازل والأعاصير فى أثناء حدوثها. ولكن لماذا عامل المجتمع جماعة الإخوان المسلمين على أنها جسما غريبا عنه؟ هل لأنه لم يعتد على أن من يحكمه يطلق اللحية ويصلى الجمعة فى خشوع؟ هل لأن الجماعة وجماعاتها المتحلقة حولها من المنتسبين والمتحالفين معها يتحدثون عن الربا والخلاعة، ويصدر بعضهم بعض الفتاوى الغريبة، ويتجمعون بمئات الألوف يطالبون بالشريعة الإسلامية؟ لا أظن، فمنذ الفتح الإسلامى ومصر تحكمها الدولة الإسلامية، كما أن الإسلام هو الدين الرسمى للدولة، وهناك تفاعل إيجابى بين مبادئ الإسلام وعموم المصريين، المشكلة يا سادة تكمن فى طبيعة الإخوان أنفسهم.