(1) يا حلوة البحر.. مالك؟ - عطشانه والبحر عالى. عدينى وانسى دلالك ما حد ف البر خالى. عبد الرحيم منصور يطلب من عروسة البحر أن تتوقف عن الشكوى والدلال، حيث إن الهم واحد في البر والبحر، وهكذا يبدو عبد الرحيم طول الوقت، يفرد الشكوى ويلمها كشباك الصيادين لا يتوقع صيدًا كبيرًا إلا قدرًا من الونس يقتسمه مع الموجوعين، وهو يذكرهم بأسطورة قديمة تقول إن الجميع في مركب واحد. في مرة مد عبد الرحيم يده داخل هذا الشباك فالتقط بليغ حمدى، ويقال إن بليغ هو من التقطه، لا أحد يعرف الحقيقة سوى وردة، ويقال إنها هي التي اخترعت القصة كلها، حيث لا وجود في السجلات لأى من سبق ذكره في السطور السابقة، يقال إن عبد الرحيم وبليغ ووردة أساطير، هذا ما أكدته لى عروس البحر في مكالمة هاتفية. (2) طفل مدلل في عائلة صعيدية. بريق ما في عينيه جعل الجميع يتوقعون حكاية طويلة سيكتبها هذا الطفل يومًا، يطل الحزن منهما فيجعل الأم مفتونة بطفلها لدرجة الخوف عليه من مجهول ما لوَّن عينَى وليدها بهذا البريق. اشترت له خلخال (حجل حدادى كما يسمونه في قنا)، يشبه الذى ترتديه، ثم زينت أذنيه بحلق ذهبى، واشترت طرحة سوداء خفيفة، كانت تلفه بها إذا ما اضطرت إلى اصطحابه إلى مشوار خارج المنزل، كانت تدنيه منها وهي تخبز، تجلس أمام الفرن البلدى تونسه بالأشعار التي تحفظها، كانت أشعارها (عديد بلغة الصعيد)، وهو محض رثاء، بكائيات رقيقة صادقة، كانت مرثيات الأم على إيقاع طقطقة الحطب في الفرن يسوى الشعر في قلب الطفل المدلل قبل أن تسوى الخبز نفسه. روح بلادك يا غريب الدارى كانت تغنيها الأم فأصبحت الكلمات وشمًا على صدر الطفل الذى لم ينزع الحلقان الذهبية إلا بأمر مديرة المدرسة الابتدائية كشرط لقبوله بها. كان عبد الرحيم منصور شاردًا فوق سطوح المنزل يستمع بمفرده للقمر وهو يغنى، كان يقسم لأصدقائه أنه استمع إليه، وأنه متأكد من وجوده مثلما هو متأكد من وجود فتاة ما ترتدى لبس المدرسة وقد عقدت شعرها بضفيرتين تنتظره على رصيف قطار ما. لم يكن يعرف أنها النداهة. وحده بليغ كان يصدقه ويؤمن بدعوته، وسرعان ما آمنت بها عفاف راضى. لمين؟ مين يا قمر؟ بتطلع لمين؟ بتسهر لمين؟ نبكى تبكى علينا نضحك تضحك لينا نفرح تفرح بينا لما الليل يرمينا وحدك تسأل فينا ونقول لك لمين؟ بتطلع لمين؟ (3) يرضيك نلف وراك كده في القهاوى يا عبد الرحيم؟ طالت جلسة عبد الرحيم في غرفته يتصنع المذاكرة فرسب، فنقله أهله على أسوان بعيدًا عن أشباح غرفته الطيبين، وهناك حصل على الثانوية العامة، أرسل الشهادة على أهله، ثم اصطحب أشباحه باتجاه القاهرة وهناك اختفى تمامًا وانقطعت أخباره، لدرجة أن الأم ندمت أنها خلعت عنه الحجل الحدادى والحلق الذهبى. نزلا والده وشقيقته الكبرى إلى العاصمة يبحثان عنه إلى أن عرفا أنه يرتاد أحد مقاهي المثقفين في وسط المدينة. يرضيك نلف وراك كده في القهاوى يا عبد الرحيم أمك عايزة تشوفك ارجع.
كان عبد الرحيم قد وضع التحقق شرطًا للعودة والتواصل مع أهله من جديد، (لما تسمعوا اسمى في كل حتة هارجع)، كان هذا هو شرطه للعودة. طبع ديوانه الأول ولم يحقق النجاح المنشود، قال أشعاره في الراديو، كتب أغنيات فأمسك أول طريق النجاح، ولكن سماع اسمه في كل حتة تأخر حتى جلس هو وبليغ على سلالم مبنى الإذاعة يبحثان عن دخول لأغنية تؤنس العساكر الذين استقروا أخيرًا على الضفة الشرقية، كانت الكلمات ما أكثرها في هذه المناسبة، المئات منها تملأ الأروقة، لكن بليغ كان يبحث عما لن يقوله أحد غيره، قال له عبد الرحيم فلتكن التحية للجنود قادمة من أبعد مكان في مصر، من أرض الربابة. قال بليغ: وهو كذلك. ما املكش إلا أغنى وأقول تعيشى يا مصر .. قالت وردة. كان عبد الرحيم يطل عبر شباك قطار الصعيد عائدًا إلى أمه بينما الغنوة تعيد نفسها في الراديو الترانزستور كل خمس دقائق، يليها صوت المذيع يقول من كلمات عبد الرحيم منصور. وأنا ع الربابة باغنى عاشق ومغنى وإيه هاكون جنب عشاقك.. يا مصر. (4) كانت الأم قد رحلت بينما كلماتها محفورة في أبعد سطر (وصيت عليا مين يابن والدي.. وصيت عليك الخال الوالدي)، يُتم عبد الرحيم تزامن مع رغبته في أن يكتب للحب عقب وفاة عبد الحليم حافظ بتجربته في الغناء الرومانسى، نصب عبد الرحيم نفسه خالاً لكل يتامى وغرباء العاصمة، من بينهم كان محمد منير هو الأقرب لشاب أسوانى موهوب يدرس في القاهرة وبداخله شحنة الفن بكرًا لم تُمس، كان عبد الرحيم هو البوابة والأم والخال، وجد نفسه في هذا الصوت ووجد الطريقة التي سيغنى بها للحب، علمونى عينيكى أسافر. قبلها قال بليغ لعبد الرحيم وهو يراه يفتش عن الحب ليغنى له على طريقته (عروستك عندى.. فيه عيله اعرفها شبهكم.. شبه الصعيد وأهله.. بينتها اسمها وفاء)، بعد عام كانت (عالية عبد الرحيم منصور) على حجر أبيها وقد أذابت بعضًا من غربته وحزنه، بينما بليغ إلى جواره على العود يكسر في كلمات كتبها عبد الرحيم على ورقة صغيرة.. لينا الفرحة لينا بالحب ننسى كل اللى فاتنا ويا الرحلة الطويلة ننسى اللى فات كله ف حياتنا دنيا بتلعب بينا ليه؟ إيه راح ناخد منها إيه؟.. قال بليغ. أشكى لمين؟.. قال منير. (5) القاهرة 1984 بدأ أصدقاؤه ييبحثون عن رائحته على المقاهى مثلما فعل والده وشقيقته منذ ربع قرن، كانوا يفتقدونه، وكان هو في مكان أفضل. أراه يسير شاردًا في شوارع القاهرة كلما هبت الأغنية: بنودع ربيع ونستقبل ربيع تختفى الدموع ويؤمرنا القدر تنطفى الشموع ويغيب القدر ونصبح ذكريات مجرد ذكريات.. قالت وردة.