خرج من بيته متوجها إلى باره المعتاد. كان يعرف أن جسده يمكن أن يخونه فى أى لحظة، ولكنه كان يخشى أكثر أن يخونه عقله. الوصايا التى أمليت عليه طوال اليوم جعلته يفكر جديا فى ترك هذه المهنة. تشنج أصابعه حول القلم طوال النهار كان كفيلا بحثّه على التفكير جديا فى الكف عن العمل. لكن أى مهنة أخرى: «صعب، صعب جدا» يعرف أنه صعب جدا، لكن لن يحرم نفسه من التفكير فى ترك تلك المهنة والبحث عن مهنة أخرى أو ترك البلد كلها لمكان لا يضطر فيه إلى العمل. يفكر فى مهنة صناعة الورق أو الزجاج أو الخشب، يفكر وهو يمشى ببطء تجاه باره. «أن أكتب الوصايا يعنى أن أجلس أمام المحتضر وأكتب ما يمليه علىّ كلمة.. كلمة.. حرفا.. حرفا.. نقطة.. نقطة، قد بل يمتد الأمر إلى ساعات طويلة، لم يحدث أن كتبت أى وصية فى ساعة واحدة فقط. يجب أن أكتبها بذلك الحبر، وعلى ذلك الورق ولا مجال للخطأ أو السهو أو العبث أو الملل أو الشرود، لا مجال إلا لكتابة كل ما يصدر عن فم المحتضر حتى أنفاسه». لكنه لم يكن إلا كاتب وصايا، لم يعرف مهنة غيرها، وهو يجيد مهنته على الرغم من عقله الذى على وشك أن يخونه. أمانته التى تعود إلى هوسه بالدقة حسمت كثيرا من الخلافات بين الورثة فى عديد من القضايا. لكنه لم يكن إلا كاتب وصايا بأصابعه المتشنجة حول القلم لساعات لن تنتهى. لم تحتمل زوجته الأولى كوابيسه الليلية والنهارية، صراعاته العنيفة كل ليلة مع أشخاص لا يراها سواه، نزفه المتكرر، التغيرات الحادة التى كانت تصيب مزاجه. لم يكن انعزاله أكثر ما يزعجها عندما كان يغلق على نفسه قبو البيت بالأسبوع دون طعام أو ماء أو نوم فى حديث لا ينقطع، والرعاية الشديدة التى يجب أن تقوم بها بعد خروجه من القبو حتى لا يمرض، لم يكن هذا هو أكثر ما يزعجها، بل النوبات الحادة التى كانت تصيبه، نوبات مراوغة، متعالية على فهمها متغيرة. وفى أحيان أخرى كانت تفاجأ بغرباء يقيمون فى بيتها. دفعته بجرأة وإصرار على تغيير مهنته، كانت متأكدة أن مهنته هى السبب، دخلت معه فى مناقشات طويلة عقيمة لكى تقنعه بأن يولى أخاه الأمر. استعانت بكل من يمكن أن تستعين به، لكن لم تملك الدليل على أن كل ما كان يحدث له سببه مهنته ككاتب وصايا. تركته.. وماتت زوجته الثانية بعد شهور قليلة من زواجهما فجأة. لم تكن العلاقة بينه وبين إخوته منذ موت أبيه جيدة، كان إخوته يرون أنه قتل أباهم، ولم يتوانوا عن التصريح بإيمانهم هذا فى كل مناسبة تجمعهم مع أمهم وجدهم. لم تعر الأم اهتماما كبيرا للأمر، ربما تكون قد اعتبرته مجرد غيرة منهم، فى حين أن الجد كان يكتفى بابتسامة هادئة كلما احتدم النقاش بينهم. أما هو فلم يقم بأى خطوة جدية تشف عن غضبه أو حزنه أو حتى إحساس بالذنب، كان محايدا تماما وهو يتلقى الاتهام. «كأننا نتحدث عن شخص آخر، كأننا نسرد قصة شخص آخر» جملة متكررة غاضبة يودون بها إثارته، لكن دون جدوى. كان اللقاء بهم حتميا لمناقشة أعمال الأسرة العديدة التى يتولاها ويجب أن يناقشها معهم قبل أى قرار. كانت اللقاءات تمر باردة فى معظم الأحيان. لم يستطع أن يتغلب على يقينه بأن إخوته يدبرون له مكيدة ما لخلعه عن تولى الإرث، خصوصا بعد أن ساعدوا زوجته الأولى كثيرا فى مسعاها من أجل أن يتخلى عن المهنة. بعد مرور عشر سنوات على ممارسته المهنة، كانت تأتى عليه أيام يصبح فيها عاجزا تماما عن الحركة. تنتابه آلام حادة، ربما ضيق فى التنفس، ورغبة شديدة فى الاختباء. مقاومته كانت تضعف مع تتالى تلك النوبات، فأصبح يستسلم لها نهائيا، لعله اكتشف أن المقاومة تزيد من عمرها، كان بعد أن تمر النوبة يعشق نفسه، ببساطة لأنه يصبح فى حالة نشاط محموم ومسعور، لا يكف عن العمل والسفر والاحتفال وممارسة الجنس. لكنه كان يخاف أن يخطئ، كان الإحساس بالخوف من الخطأ يحاصره فى كل لحظة من لحظات زمنه. يشعر أنه فى اللحظة التالية سيخطئ، فى الليلة التالية سيخطئ، بالتأكيد سيخطئ. يلفه هذا الإحساس حتى يقع أرضا، ويوقع كل ما حوله ومن حوله، كوب فى يده، قلم، كرسى، ورقة، أحد موظفيه، أى شخص يمشى بجواره فى الشارع. كان يجد صعوبة بالغة فى تصديق أن هناك شخصا ما يحبه. أما هو فكان يحب، يحب كل من يقابله، كان يردد دائما: «أنا لا أعرف أن أكره، ببساطة لا أستطيع»، ربما لأنه كان يحب لم يصدق أن هناك من أحبه، لم يصدق أن زوجته الأولى أحبته ولا حتى الثانية، وبالطبع موقف إخوته منه عزز هذه الفكرة لديه. لم ير أن أمه أحبته فعلا ولا أباه ولا جده ولا أى شخص فى العالم كله. كان يجد صعوبة بالغة، بل مشقة تصل إلى المعاناة عندما يصرح له أى شخص بأنه يحبه. كانت المعاناة ألما يشبه سكينا حادا مغروسا فى جبينه ولا يستطيع التخلص منه إلا بعد أيام عديدة من انتهاء التصريح بالحب. هو الذى يحب فقط، حقيقة كان يطالب كل من حوله بالاعتراف بها، ليس بشكل مباشر، بل بأفعاله الكريمة السخية. كان يقوم بنزهات ليلية طويلة حول الميناء القديم فى مدينته. لم يكن يحب أن يشاهد مدينته من أعلى بنايته، لم يكن يرى إلا السواد من شرفته العالية، والثعابين الطائرة فى سماء مدينته فى كوابيسه الليلية، مطلقة أصواتا حادة، رفيعة، مثل صوتها. فى إحدى غرف بيت واحد من المحتضرين بينما كان ينتظر الدخول لكتابة الوصية، دخلت عليه فتاة. وقف يحييها، نظرت له لعدة ثوانٍ ثم اختفت. انتهى من كتابة الوصية، غادر متجها إلى زيارة أمه. قضى معها الوقت. عندما وصل إلى البيت وجد الفتاة التى رآها فى الصباح تنتظره. تحدثت معه طويلا حتى انتصف الليل. طلب جده وطلب منه أن يقابله فى الصباح. وافقت الفتاة بعد ستة أشهر من المعارضة الشديدة على الزواج به. لم يعرف أحد ما السبب وراء تغيير موقفها بعد أن كانت حتى ترفض رؤيته. فى يوم الزفاف انتشرت الهمسات مؤكدة أن الجد كان وراء تغيير موقفها. يقطع من نص طويل