فولر: هل يتعين على واشنطن أن تصيغ سياساتها فى الشرق الأوسط كما لو أنه لا يوجد إسلام؟ إذا كان العنوان أحد الأسباب الأساسية لاقتناء كتاب ما، فإن المحتوى وحده المسؤول عن إكمال القراءة، «عالم بلا إسلام» عنوان لافت بلا شك، لكن هل المحتوى على قدر صدمة الغلاف؟ الحقيقة أنه وبعد 250 صفحة من أصل 400 صفحة تقريبا هى عدد صفحات الكتاب أصابنى الإحباط، الكتاب، كما يفهم من العنوان، يطرح تساؤلًا خيالًا «ماذا لو كان العالم بلا إسلام؟»، والسؤال يفترض تقديم سيناريوهات لما يمكن أن يحدث وليس سردا لما حدث بالفعل، فالغرض الأساسى من تلك النوعية من الأسئلة كما أفهم يكمن فى توظيف الخيال والقدرة على الإبداع لإسقاط الضوء على التاريخ وفق منظور مغاير، ومن وجهة نظر وزاوية مختلفة، وذلك لإتاحة الفرصة لملامح وعوامل جديدة للانبثاق أمام ناظرينا، تلك التى لم يتم الالتفات إليها سابقًا. لكن هل هذا هو ما طبقه المؤلف؟ للأسف لا. ربما بسبب السياق الذى أصر جرايهام إى فولر النائب السابق لرئيس مجلس الاستخبارات الأمريكية على اختياره، فالحديث عن اختفاء الإسلام كحل نهائى لما أُطلق عليه «صراع الحضارات» هو طرح باهت، وربما يصل إلى حد السذاجة، يقول المؤلف: «يحدونى الأمل أن يفضى الطرح المقدم بين دفتى الكتاب إلى أن يعيد القارئ التفكير فى ما يخص طبيعة الصراع بين الشرق والغرب، والكيفية التى ينظر بها الأمريكيون بصفه خاصة إلى سياساتهم الخارجية». وإذا افترضنا حسن النية، وهى كذلك فى ما أحسبها، فما الذى قدمه المؤلف لينال ما أراده؟ جل ما قدمه عبارة عن سرد تاريخى مكرور عن نشأة الإسلام ونبيه، والصراع بين الدين الجديد وما سبقه من ديانات، ثم العلاقات التى نشأت بين أتباع الديانة الجديدة مع من حولهم، ثم العلاقات التى قامت نتيجة لهذا الدين والحضارة التى بناها أتباعه وعلاقاتهم مع الحضارات الكبرى فى العالم. الحقيقة أن جهدا كهذا يمكن أن يكون مشكورًا فى إطار التعريف بالدين الإسلامى، وكشف أو فضح طبيعة النظرة الغربية النمطية للعالم الإسلامى، خصوصا أن الكتاب مقدم للقارئ الغربى بالأساس، لكن ليس لذلك أدنى علاقة بالعنوان اللافت وربما الخادع للكتاب، فكما لو أن إدوارد سعيد لم يكتب «الاستشراق» ذلك النص البديع الذى يعتبر أهم وثيقة اتهام للاستشراق الأوروبى بشقية الثقافى والسياسى، فالمفترض أن بعد هذا الكتاب تغير كل شىء بالنسبة إلى الصفوة العربية، وكذلك بالنسبة إلى الغربيين الذين بدؤوا فى دراسة الصور النمطية التى كانوا كونوها من قبل، فهو الكاتب الوحيد تقريبًا الذى خاطب الغرب بلغته ومنهجه العلمى الحديث، فكشف الغطاء عما يتخفى بقناع الثقافة والدراسة العلمية من مواقف سياسية لا ترمى إلا إلى تحقيق مطامع أو مصالح مادية صرفة، وبعد مرور أكثر من ربع قرن على هذا الكتاب يبدو أن التاريخ قد عاد إلى الوراء، كما لو أنه يجب أن نبدأ من جديد. إن ما يؤخذ على معظم الدراسات من هذا النوع اهتمامها بالآخر الغربى من جهة الصراع الحضارى ومواجهة المستعمر، أى تسليط الضوء على العلاقة السلبية معه، وعدم رصد العلاقة الإيجابية، لكن ما ميز هذه الدراسة هو دراسة عناصر العلاقات الباهرة فى ما بين الإسلام من جهة وأربع من الحضارات العظمى، والتى كان للإسلام وثيق الصلة بها عبر آجال ممتدة وهى: أوروبا الغربية، وروسيا الأرثوذكسية، والهند الهندوسية، والصين الكونفوشيوسية، وفى كل من تلك العلاقات على حدة، توصل الإسلام والحضارة المعنية إلى أوضاع توافقية ذات طبيعة متشعبة ومتجددة، كذلك فقد تم التلاقح فى ما بين تلك الحضارات، وتبرز تلك الحضارات صورة أكثر دقة عن الكيفية التى أدار بها المسلمون بالفعل تعاملاتهم مع الحضارات والأديان الأخرى، بأكثر مما يتم تصويره فى سيناريوهات المواجهة شديدة التبسيط ذات الطابع المخاتل. صحيح أن المؤلف وعى من البداية إلى حقيقة أنه لا يوجد ما يسمى بالعالم الإسلامى ككتلة متجانسة بل عوالم إسلامية شتى، إلا أنه وقع فى ما هو أخطر إذ لم يفصل على امتداد الكتاب بين الإسلام كدين وبين المسلمين كأتباع للديانة، وهو ما أوقعه فى كثير من الأحيان فى تناقض بالغ وأفسد حتى بعض أفكاره المتعاطفة مع المسلمين، يقول المؤلف «يكون من المخادعة أن يلتفت الغرب حوله ليسأل فى دهشة ما الخطب الذى حل بالعالم الاسلامى، أو بالإسلام لأن يشهد الغرب كل تلك الاستجابات وكذا فى ردات الفعل العنيفة من المسلمين؟ فما هى إلا بلادة وتجاهل متعمد من الغرب ألا يقر بآثار سياساته عبر القرنين الماضيين أو يزيد فى تحفيز ردات الفعل تلك من قبل العالم الإسلامى»، وهذا الكلام على ما فيه من إطراء، فإن مقولات كتلك هى التى طالما انتقدها وحاربها إدوارد سعيد، خصوصا مسألة التعميم، فمن الأفكار التى طرحها سعيد تبيان خداع بعض ما يكتسى المظهر العلمى وهو فى حقيقته عنصرى، مثل إطلاق صفة «شرقى» على كل ما يرى فيه أبناء الغرب اختلافًا عن الحضارة الغربية، والتذرع بهذه الصفة أو التسمية للقول بما يجافى الحقيقة والواقع من نسبه خصائص جوهرية أو عناصر إنسانية تمثل «جوهر» الشرق باعتبارها نقيضًا للغرب، وهو ما سمّاه بالنظرية «الجوهرية» ويأتى بالأدلة القاطعة على أن هذه النظرة لا تقوم على أسس علمية، لأنها لا تعمل حسابًا للتاريخ والتطور وغيرهما من العوامل التى تتحكم فى حياة الإنسان. والحقيقة أن عنوان الكتاب لا ينطبق إلا على آخر صفحاته تلك التى يتناول فيها المؤلف استراتيجيات العمل مع العالم الإسلامى، يقول إنه يتعين على واشنطن أن تصيغ سياساتها فى الشرق الأوسط كما لو لم يكن ثمة إسلام، فجل القضايا فى هذا الإقليم يمكن أن يتم ناولها وحلها دونما اللجوء إلى الإسلام كعامل فاعل أو تفسيرى، وبالفعل فإن اعتبار الإسلام تفسيرا لتلك القضايا يجعل رؤيتنا لها مشوشة ومرتبكة. هل كان المؤلف بحاجة إلى 400 صفحة ليقنع أمريكا بمقولته تلك؟