لم يعد الرأى العام يطيق أن تستمر إجراءات التقاضى لأكثر من عامين فى قضية بحجم مذبحة رفح الثانية التى قُتِل فيها بدم بارد 25 مجنداً فى القوات المسلحة؟ وقعت الجريمة الإرهابية يوم 19 أغسطس 2013، وكان على الجميع الانتظار لأكثر من عام حتى 6 ديسمبر 2014 ليصدر حكم بالإعدام، بعد الحصول على الرأى الشرعى من فضيلة المفتى! ولم يكن هذا نهاية المطاف، لأنه أعيدت محاكمة المتهمين مرة ثانية حتى صدر قرار أمس (الأول من أكتوبر) بتحديد جلسة 14 نوفمبر القادم للنطق بالحكم بعد الحصول على رأى فضيلة المفتى مرة أخرى! إذا صدر الحكم النهائى فى هذا الموعد فسيكون قد مرَّ أكثر من عامين على وقوع الجريمة الإرهابية! وإذا كان يمكن إيجاد أعذار فى بطء التقاضى فى بعض القضايا، إلا أنه من الصعب تفهم الأمر فى مثل هذه القضية التى ظن الكثيرون أنه توفرت لها عوامل كثيرة تساعد على سرعة البت النهائى، من أهم العوامل هذا الاهتمام الجماهيرى الفائق، خاصة مع التعاطف الشديد بعد نشر صور الشهداء ومعرفة من هم وكيف جرى سفح دمائهم. ويُضاعِف من التعجب والاستنكار أن أجهزة الأمن قامت بمسئولياتها خير قيام فى هذه القضية، فقد نجحت فى إلقاء القبض على المتهم الأول بعد أقل من أسبوعين من وقوع الجريمة، وكان فى حوزته أسلحة نارية وقنابل يدوية، وعندما أحسّ بأنه لا فكاك من الحصار حاول أن يفجر نفسه، ولكن قوات الأمن تمكنت من تقييده والسيطرة عليه، وأجرت معه تحقيقاً سريعا، وواجهته بتسجيلاته الصوتية التى تؤكد تورطه فى الجريمة، مما أجبره على الاعتراف فى التحقيقات المبدئية، بل وقام بتمثيل الجريمة على الواقع. وهذا عنصر مهم فى دعم الاتهام أمام المحكمة حتى بعد أن تراجع المتهم عن أقواله، خاصة أنه كان، فى نفس الوقت، يتباهى أمام المساجين الآخرين بأنه هو الفاعل. كما أن سابق خبرة المتهم كانت مؤشراً آخر على طبيعته، فقد كان هارباً من حكم بالإعدام صدر ضده فى تفجيرات طابا ودهب، كما كان مطلوباً فى عده جرائم إرهابية أخرى، منها قتل ضابط شرطة، وبعض العمليات الإرهابية التى استهدفت منشآت شرطية، كما كان متهماً فى مذبحة رفح الأولى التى راح فيها 16 شهيداً آخر، كما شارك فى جريمة خطف 7 جنود، التى وقعت فى عام حكم الإخوان والتى أطلق فيها الدكتور مرسى تصريحه التاريخى بأنه حريص على سلامة الخاطفين والمخطوفين! وأما سلوك المتهم الأول أثناء محاكمته، فكان يوفر أدلة دامغة على طبيعته الإجرامية، يكفى أنه حاول الهرب فى خطة مرسومة مع عصابته خارج السجن، ولولا يقظة أفراد الأمن لكان الآن حراً طليقاً يقترف جرائم أخرى! كما أنه كان يرسم علامة الذبح لخصومه فى حركات مخيفة ليس بإمكان الجميع أن يتجاهلوها أو أن يستمروا فى حياتهم كما هم! يقول المثل السائر إن العدل البطيئ أقسى على الضحية من الظلم القائم، وهذا مسألة على أقصى درجة من الأهمية، خاصة أن بطء التقاضى ليس مسئولية الهيئة القضائية، كما يظن البعض، بل إن القضاة أنفسهم يجأرون بالشكوى من مُعَوِّقات تتسبب فى البطء، لعوامل موضوعية على الأرض، إما تشريعات يخرج إصلاحُها عن صلاحيات القضاة، وإما أسباب أخرى لا يمكن لهم أن يوفروا شروط تحقيقها، مثل أعداد القضاة المطلوب زيادتهم لمواكبة الكم الهائل من القضايا، وزيادة دور المحاكم، وتوفير التقنيات الحديثة التى توفر المساعدات القانونية وتُسَهِّل أرشفة الأحكام والقضايا، مع أهمية تكوين جهاز تنفيذى على مستوى يليق بالعصر..إلخ بطء التقاضى يُحِيل حياة الناس إلى جحيم، خاصة أن قلة قليلة من المصريين هم الذين يلجأون إلى سبل أخرى لنيل ما يرونه حقوقهم، أما الأغلبية الساحقة من الشعب فهى شديدة الالتزام بالقانون وتلجأ إلى القضاء لحل مشاكلها، وهى مشاكل تدخل فى صميم حياة الناس، والكثرة الكثيرة من هذه المنازعات خاصة بصراعات على أملاك عقارية، أو سرقات، أو عمليات نصب واحتيال، أو عدوان بالضرب، أو مشاجرات قد يتخللها سب أو قذف، أو خلافات بين الجيران قد تكون بداياتها شقاوة الأطفال..إلخ إلخ. وهى مشاكل على بساطة حسمها إلا أنها قد تمتد إلى سنوات، وقد يُغَيِّب الموت بعضَ أطرافها فينتقل النزاع فى بعض قضايا المُتوفَّى إلى الورثة! من ناحية المبدأ، فإن بطء التقاضى لا يفيد إلا الخارج على القانون فى النزاع المنظور أمام المحكمة. ومن ناحية أخرى، فإن العدالة الناجزة هى أمل الملايين، وهذا يجعل مهمة الإصلاح التشريعى، لتسهيل التقاضى والتسريع بحسم القضايا، من أهم مهام البرلمان الجديد، مع ضرورة أن يولى مسألة توفير احتياجات تطوير المنشآت القضائية بأحدث ما وصل إليه العالم. مع مراعاة أن الجرائم المُستَحدَثة المتطورة تعاظمت فى مصر، مثلاً، أنظر إلى حجم ونوعية الأسلحة فى أيدى الإرهابيين، وحاول أن تُقدِّر كم الأموال الخرافية تحت أيديهم، وتابع الظهير الدولى الذى يوفر لهم الاطمئنان بأن هناك من يحمى ظهرهم، وكل هذا يلزم معه أن تكون العقلية المتعاملة مع هذه الجرائم أكثر تطوراً. أما إذا ظلت هذه الوتيرة، التى نعيشها فى محاكمة إرهابيى مذبحة رفح الثانية، فسوف يكون الإرهابيون هم السعداء عن جد، على أمل أن تتدخل دول أو أجهزة لإنقاذهم، أو أن يتحقق وهمهم بأن يعود مرسى إلى الكرسى!