كل الشواهد تشير إلى وجود خطوات عملية ممنهجة، لا لتدمير حضارة الدولة السورية والقضاء على بنيتها التحتية، والتخلص تمامًا من أي مؤسسات سيادية وعلى رأسها الجيش فقط، بل وأيضًا لتفريغها من السكان، تمهيدًا لاستقبال سكان الخلافة الجدد من آسيا الوسطى وأفغانستان وشمال القوقاز، إضافة إلى عناصر الإرهاب الأخرى من مختلف الدول العربية، سواء الذين خاضوا عمليات في مستنقعات الإرهاب المختلفة في القاوقاز والبوسنة والعراقوأفغانستان والشيشان وليبيا، أو الذين تدربوا على أيدي القوات الأمريكية والألمانية في تركيا والسعودية والأردن. من الصعب أن نتحدث عن كارثة هجرة السوريين، أو تهجيرهم، من وطنهم الأصلي للبحث عن أوطان بديلة، دون التركيز على أعدادهم المرعبة التي تثير التساؤلات والشكوك. ووفقًا لإحصائيات الأممالمتحدة، فقد بلغ عدد السوريين خارج البلاد خلال العام الأخير 4 ملايين شخص، بينما بلغ عدد النازحين في الداخل السوري 7 ملايين شخص، علمًا بأن العدد الإجمالي لسكان سوريا يصل إلى 23 مليون نسمة. إن الضجة الأوروبية – الأمريكية – العربية المثارة حاليًا حول الهجرة غير الشرعية تدور حول ما يقرب من 200 ألف إلى 300 ألف سوري يحاولون التوجه إلى دول أوروبية، سعيًا للبقاء فيها وهربًا من جحيم الهدم والتدمير، لكن لا أحد يتحدث عن 11 مليون (نصف سكان سوريًا) بين مهاجر في الخارج، ونازح ومشرد في الداخل. من الواضح أن قادة "الخلافة" يعملون، سواء بالتنسيق أو بشكل ضمني، على نفس الموجة التي تعمل عليها الولاياتالمتحدة وحلفائها، وعلى رأسهم تركيا وقطر، فتفريغ سوريا من السكان قد يكون أحد أهم العوامل المساعدة في إقناع الرأي العام العالمي بمبررات هدم الدولة السورية وتجريفها تمامًا من أجل تحقيق أحد أهم "الأهداف الإنسانية السامية، ألا وهو إرساء مبادئ الديمقراطية وتدشين أرضية مناسبة للاستقرار"، بالضبط مثلما حققت الولاياتالمتحدة الديمقراطية والاستقرار في أفغانستانوالعراق والصومال ونيجيريا وليبيا! وزير الداخلية الإيطالي أنجيلينو ألفانو أعلن، الخميس 3 سبتمبر الحالي، أن المجتمع الدولي مسؤول عن تبعات إسقاط القذافي، موضحًا: "في تصريحات صحافية من باليرمو عاصمة صقلية"، أن هذا الوضع قائم منذ سقوط القذّافي، مضيفًا: بأن "المسألة الرئيسية تكمن في ضرورة أن يتحمل تبعات هذا الأمر، المجتمع الدولي نفسه الذي أرسل القذافي إلى بيته، أو بالأحرى إلى المقبرة". إذا كانت تصريحات وزير الداخلية الإيطالي، تُذكِر الولاياتالمتحدة وأوروبا بخطئها في تدمير ليبيا، فتصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تلقي المزيد من الضوء على سياسات أمريكية – أوروبية ممنهجة لتنفيذ سيناريوهات أثبتت التجربة فشلها مُسبقًا في أفغانستانوالعراق وليبيا. والمثير للدهشة هنا "أن واشنطن اعترفت مؤخرًا بخطأ غزوها للعراق، ولكنها في الوقت نفسه تواصل نفس السيناريو تقريبًا في سوريا”. لقد أكد بوتين على أن اللاجئين السوريين يهربون ليس من حكومة بشار الأسد، بل من تنظيم "داعش" الإرهابي، معتبرًا أن أزمة الهجرة الراهنة مرتبطة بالسياسة الغربية الخاطئة في المنطقة، موضحًا: "أن أزمة اللاجئين كانت "متوقعة تمامًا"، وأن روسيا حذرَت مرارًا من قضايا واسعة النطاق قد تظهر في حال استمرار الشركاء الغربيين باتباع سياساتهم الخارجية الخاطئة، وخاصة في بعض مناطق العالم الإسلامي وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. مشكلة اللاجئين تؤرق ضمير العالم، وتثير غضب ودموع العرب من جهة، ومخاوف الأوروبيين بشأن أمنهم من جهة أخرى، وبين هذين النقيضين، تمارس واشنطن دق الأسافين وإشعال الأوضاع. فالناطق باسم البيت الأبيض جوس أرنست يرى "أن أزمة الهجرة إلى أوروبا أدت إلى بروز خلافات عميقة داخل الاتحاد الأوروبي حول توزيع العبء على جميع أعضاء الاتحاد"، وقال "إن واشنطن مستعدة لتقديم استشارات فنية للاتحاد الأوروبي لحل قضية الهجرة". واشنطن لا تسمع إلا نفسها، وما يتردد في رؤوس ساستها، وأوروبا خائفة من تسلل عناصر داعش بين المهاجرين، رغم أن الكثير من العناصر التي تحمل الجنسيات الأوروبية غادرت أوروبا وتوجهت إلى "مركز الخلافة" في البداية، ويمكن أن تعود هي وغيرها من الجنسيات الأخرى بين المهاجرين، وهو ما حذرَت منه الدول العاقلة طوال السنوات الأخيرة، أما سوريا فيتم تفريغها وتجريفها من سكانها - هذا المشهد الثلاثي الذي تلعب فيه وسائل الإعلام دورًا مفصليًا، يثير العديد من التساؤلات: لماذا تأججت وتفاقمت أزمة المهاجرين خلال الأسابيع الأخيرة، وهي التي كانت تسير في خط مستقيم وبمعدلات عادية، أو على الأقل لم يكن الإعلام يسلط عليها الضوء بهذه الكثافة؟ لماذا لم تستمع الولاياتالمتحدة وأوروبا إلى تحذيرات الدول ذات التفكير السليم بشأن تبعات سياسات المعايير المزدوجة، ودعم الإرهاب، والإطاحة بالأنظمة السياسية؟ بعض التقارير تتحدث عن أن مشكلة الهجرة حقيقية بالفعل وليست مفتعلة، ومن الممكن أن تسفر عن أزمات أخرى ستجعل أوروبا تندم أمنيًا واقتصاديًا وإنسانيًا لسنوات طويلة مقبلة، وسيبقى الضغط الأمريكي على أوروبا، سواء بتصوير روسيا كعدو تارة، والصين كعدو محتمل تارة أخرى، أو اختراع أعداء وهميين لأوروبا تارة ثالثة من أجل استمرار سيطرة واشنطن عليها. السؤال الذي تطرحه هذه التقارير بأشكال مختلفة يدور حول احتمال بعيد، ولكنه يملك الحق في الوجود والطرح للمناقشة، هل يمكن أن تستخدم الولاياتالمتحدة مشكلة المهاجرين كذريعة لتفعيل سيناريو الاستعانة بقوات برية عربية في اقتحام دمشق، وهو ما تحدث عنه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي أعرب عن قناعته بأن دولًا في الشرق الأوسط سترسل في الوقت المناسب قوات برية إلى سوريا لقتال "داعش". وأشار إلى أن هذا الأمر سيناقش في الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية شهر سيتمبر الجاري، مشددًا على "ضرورة أن يكون هناك أناس على الأرض، أنا مقتنع بأنهم سيكونون هناك عندما يحين الوقت المناسب"، في الوقت نفسه أكد أن القوات الأمريكية لن تكون جزء من المعادلة، وأنه ليس هناك أدنى مشروع لتغيير هذا الأمر"؟ هل يمكن أن تستعين، إلى جانب القوات البرية العربية و"المعارضة المعتدلة المسلحة"، بجبهة النصرة وفقًا لدعوات ومبادرات مدير الاستخبارات الأمريكية السابق ديفيد بتريوس الذي اقترح الاعتماد على "جبهة النصرة" من أجل مكافحة تنظيم "داعش"؟. وذكرت تقارير أن "بتريوس" وهو القائد السابق للقوات الأمريكية في العراقوأفغانستان، يقوم بإقناع مسؤولين أمريكيين بدراسة الاستعانة بما وصفه بالأعضاء "المعتدلين" من "جبهة النصرة" التابعة لتنظيم "القاعدة" الإرهابي. لقد فشلت واشنطن في استخدام سيناريو الأسلحة الكيماوية والذرية مع سوريا، وهو "السيناريو – الذريعة" الذي استخدمته في تصفية صدام حسين وغزو العراق، وبالتالي هي في حاجة ماسة إلى "ذريعة - أزمة قوية" على خلفية ضجة عالمية وحملات إعلامية مع المماطلة في حل أو تسوية أي من جوانب هذه الأزمة. في كل الأحوال، لا يهم واشنطن ما سيحدث بعد ذلك في سوريا حتى وإن تحول الصراع بين داعش المدعوم من دول وأطراف، وبين جبهة النصرة وبقية التنظيمات الإرهابية الأخرى والمدعومة أيضًا من دول وأطراف أخرى، أليس هذا ما نراه حاليًا في ليبيا على خلفية إعاقة الحكومة المعترف بها دوليًا والضغط عليها للخضوع للإملاءات الغربية بإشراك القوى الإرهابية في السلطة؟! يجري تفريغ سوريا من سكانها استعدادًا لإحلال "شعب الخلافة" تحت رايات متعددة في مشهد مرعب يتقاتل فيه "جيش عربي" مع جيش "إسلامي": جيش عربي بمبادرة خبيثة من واشنطن، ضد جيش "الخلافة الداعشية" بدعم مباشر وغير مباشر من دول كبيرة وصغيرة، ليأتي المندوب السامي الأمريكي "بول بريمر الثاني"، ونرى سيناريو العراق بحذافيره والديمقراطية المجيدة التي تحققت هناك. صحيفة "يو إس إيه توداى" الأمريكية نشرت على موقعها الإلكتروني "أن الصور المتعلقة بالأزمة السورية تفطر القلب، والمأساة في تصاعد، والمطالبات والنداءات بالتحرك تتعالى، والرئيس الأمريكي باراك أوباما، يواجه حلولًا غير سهلة لأزمة اللاجئين السوريين". وانتقلت الصحيفة إلى منطقة أخرى خطيرة لتؤكد أن "النزوح السورى ليس أزمة اللاجئين الأكبر في التاريخ لكنها قد تكون الأكثر تعقيدًا، خصوصًا وأن هناك جماعات عرقية وفصائل دينية تخوض المعركة مع نظام بشار الأسد". ولكي تدعم الفكرة العامة للحملة الأمريكية، تنقل عن أندرو تابلر (زميل بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى) قوله: "أعتقد بأن الشيء الوحيد الذي يمكننا القيام به في هذه المرحلة هو القبول بأن سوريا بلد مُقسَم، لكن المشكلة في هذه الطريقة للتعامل مع الأمر هي أنه نظًرا لأن النزاع في سوريا شرس للغاية وليس في طريقه للنهاية في وقت قريب، فإن سوريا ستواصل نزيف الكثير من الأشخاص والكثير من الإرهاب أيضًا". الصحيفة الأمريكية نقلت أيضًا عن كاثلين نيولاند (الأخصائية بمعهد سياسة الهجرة) أن "ترك السوريين فى معسكرات اللاجئين، أو الأسوأ من ذلك تركهم يتجولون في المدن والبلدات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، يعد أزمة إنسانية وتهديدًا أمنيًا في نفس الوقت". السيناريو يبدأ من أسفل عبر الخبراء والمحللين بمراكز الأبحاث القريبة من المؤسسات الأمريكية، ومن خلال عاملين في مجال الهجرة، لكي تكتمل الصورة المأساوية، لتبرر بدورها قرارات سياسية وخطوات عسكرية مقبلة، يمكن أن نجد صداها في تصريحات سابقة لعسكريين وعناصر مخابرات، ورؤساء دول أيضًا.