المشهد ما زال عالقًا في أذهان الجميع، الكل يتذكر ذلك الشاب الأسمر الذي تسلّق عمارة السفارة، وجهه المنحوت، وجسده النحيل، مازالا قادرين على الإتيان في ذهن المارين أسفل العمارة التي احتلتها يومًا ما "السفارة الاسرائيلية"، عشرون طابقًا، استطاع أحمد الشحات في أغسطس 2011 أن يصعدهم في 22 دقيقة، لينهي أسطورة العمارة التي لا تقهر، غاب العَلَم الإسرائيلي، وغابت بعده السفارة عن ميدان الجيزة، أربع سنوات من الغياب، انتهت بمقر جديد لكنه استوطن ضاحية المعادي هذه المرة. منذ عشر سنوات سكن الدار، السفير الإسرائيلي، فيلا راقية بشارع 13، أكثر الشوارع هدوءً بحي المعادي السرايات، اختارت السفارة دار السفير، لكنها لم تهتم كثيرًا بالجار، فرغم مرور عشر سنوات لا يعرف جيران منزل السفير الإسرائيلي سوى الشكوى لوزارة الداخلية حينًا، وللخارجية حينًا آخر، وفي النهاية عرف الجميع أن "لغير الله الشكوي مذلة"، "الفيلا بقت السفارة رسمي"، هكذا قال "عبد الرحمن" حارس الفيلا المجاورة عقب سؤاله عن افتتاح السفارة الإسرائيلية أمس الأول"احنا شوفناهم بيحتفلوا وكان فيه تأمين زيادة لكن منعرفش السبب ايه". لم يهتم عبد الرحمن كثيرًا بالسبب وراء احتفال "اليهود" -كما يشير إليهم- "هما بيحتفلوا ع طول وما ينوبناش حاجة غير العطلة"، الحي الذي يمتلأ بالسفارات الأجنبية، لا تشكل فيه الإسرائيلية عبئًا على سكانه، فقد اعتادوا العبء منذ سنوات "هو ايه الفرق بين السفارة والسفير أهو كلهم ولاد.... عم يا أخونّا ولاد عم". قبل سنوات ضاقت الدنيا في وجه "أحمد" المهندس الزراعي بعد أن تعرض لخسارة فادحة في المزرعة التي كان شريكًا فيها، غاب الأمل عن وجهه وبات اليأس شريكه في الحياة، فلم يجد مخرجًا سوى الذهاب للسفارة الإسرائيلية باحثًا عن عمل، لم يهمه وقتها أن يتهم بالعمالة والخيانة، كل شغل باله أن يحيا كريمًا "هتفرق ايه إسرائيل عن أوروبا، لكن كل المشكلة إن هناك هيحترمونا عشان مصريين". القرار كان سهلًا لكن الخيار لم يكن كذلك، قبل صعوده إلى السفارة التي كانت وقتها في مقرها القديم بالجيزة استوقفه الضابط المسئول عن التأمين، "لو سافرت مش هترجع تاني ولو ما سفرتش أمن الدولة والمخابرات مش هتسيبك"، آثر المهندس الثلاثيني السلامة، وقرّر العودة من حيث أتى، ليشتري تاكسي ويكمل حياته ب"أم الدنيا"، حتى أتت إليه السفارة في عقر داره "دي علامة من ربنا أنا ساكن هنا في المعادي، وشغلي رايح جاي عليها، ومين عارف يمكن يركب معايا في يوم حد جدع منهم، ويوافق يجيبلي تأشيرة". الجميع يخشي أن تلتقطه كاميرات التأمين، وكذلك عدسات الصحافة، "من خاف سلم" شعار جيران منزل السفير الذي أضحى السفارة منذ ساعات قليلة، قليلون هم من يريدون التحدث حول وجود السفارة، وكثيرون كذلك لا يعنيهم الأمر ولم يشكل فارقًا في حياتهم اليومية "هما مبنيين في المعادي ملناش دعوة بيهم، المعونة الأمريكية والسفارة الإسرائيلية"، يتحدث عامل ديليفري بأحد المطاعم الأمريكية الهوية "الأوردر بيتفتش والموتوسيكل بيتقلب فغالبًا بنلغي الأوردر وخلاص". في المعادي السرايات لا يسأل أحد عن دين السكان، فالدين لله والسرايات للجميع، فهذه يسكنها يهودي، وأخرى مسيحي فرنسي، وأخرى يشك الجميع في شيعية سكانها، وفي آخر الشارع سقط أحدهم منتحرًا من أعلى عمارته ليعرف جيرانه أن الرجل الأربعيني "ملحد"، لا يهم السكان كثيرًا من يسكن في الفيلا، سفيرًا أم سفارة، ولا يهم أحد أن ترتفع نجمة داوود في سماء المعادي أم لا، لكن جل ما يهمهم أن تنزاح تلك السواتر الأسمنتية التي تحيط بأربع شوارع خلّقت أزمة للمارة و للقاطنين "أنا علشان أعرف أشتري حاجة من آخر الشارع، بضطر ألف نص ساعة بالعربية، ولو مشيت على رجلي بلف الكرة الأرضية علشان أوصل، احنا مش ذنبنا إنهم جبناء وخايفين يسيبوا السكان في حالهم"، تتحدث "ماجدة فهمي" ربة منزل عن معاناة السكان التي بدأت منذ سنوات بمنزل سفير ولا تعلم ماذا سيكون الوضع بعد تحوله لسفارة "احنا مش شايفين منهم خير، وهما فعلًا نموذج للجار السو اللي تفضل تدعي إن تجيله مصيبة تاخده". تعاملات السفارة مع محيطها يكاد يكون معدوم، فكل التعاملات تتم من خلال الأمن المصري بدءًا من الإشراف على نظافة الشوارع المحيطة وصولًا لتقليم حديقة الفيلا الخاصة بالسفارة "بيندهولي كل شهر أوضب الجنينة بس كل تعاملي مع الأمن ماليش دعوة باليهود"، يتحدث أشهر جنايني في المعادي، الذي يسير بدراجته مختالًا بعدته الزراعية "هما بيكتفوا بالسلام من بعيد والفلوس بيدفعها الظابط"، لم يشأ الرجل الستيني أن يبوح باسمه وكذلك راتبه الذي يحصل عليه نظير تقليم الأشجار من منزل السفير الاسرائيلي "الكوريين في الشارع التاني أحسن منهم وإيديهم فِرطة". "7 سيارات، وعدد من الموتوسيكلات، و5 بوكسات شرطة" موكب السفير الإسرائيلي، مشهد يومي معتاد، يعرفه القاصي والداني من سكان الحي القديم، لكن لا أحد يعرف مواعيده أو أوقاته، الموكب المهيب يعرفه الجميع حتى دون النظر للعلم الأبيض المُموّه بنجمة داوود الزرقاء، فهو الوحيد دونما مواكب السفراء الذي تحوطه هذه الهالة التأمينية "هو كان كده لما ده كان بيته، الله أعلم بقى لما تبقى السفارة هيعملوا فينا ايه"، يضيف عبدالرحمن، حارس العقار المجاور "المصيبة الناس فاكره إن السفير اللي كان مع عادل إمام وجابله تورتة ده حقيقة، احنا معاهم بقالنا سنين، ولو يوم جابولنا تورتة هيبقى فيها قنبلة". رغم أخبار افتتاح السفارة، وصور المراسم الرسمية لتدشينها، إلّا أنّ الأمن المصري المُكلف بحمايتها، لا زال يحيط الأمر بالسرية التامة، نافيًا أن تكون السفارة قد افتتحت بالفعل "مين قال إن الافتتاح تم، دي كانت مجرد حفلة والسفير سافر من امبارح وهييجي يوم الأحد لبدء العمل"، بكلمات مقتضبة تحدث أحد الضباط المُكلفين بحراسة الفيلا، مؤكدًا أنّ العمل بالسفارة مُعلّقًا وأنها حتى اليوم لا تزال منزل السفير والتعامل الأمني يتم بناءً على هذا، بينما كان السؤال الأهم "انتوا عرفتوا منين؟".