كتب: شيماء أبو عميرة «لا مؤاخذة يا ست.. هتنزلى هنا أو هنضطر نرجع تانى ونلف المعادى كلها.. حاييم شكله يا إما خارج يا إما داخل بيته.. منهم لله الصهاينة عاوزين يستوطنوا هنا».. عبارة استوقفتنى كثيرًا ألقاها علىَّ سائق التاكسى فى أثناء توقفنا قبل مدخل شارع 13 بالقرب من ميدان مصطفى كامل خلف قسم شرطة المعادى. «ناقصين احنا مستوطنات يهودية»، عبارة أخرى متأسية أطلقها السائق جعلتنى أسأله عن المغزى وراء هذا، فأشار السائق، الذى رفض ذكر اسمه، إلى أنه من سكان المعادى، بيده المرتعشة إلى بعض الحواجز ورجال الأمن «إنتى مش شايفة.. قفلوا الشوارع المحيطة بمنزل السفير الإسرائيلى بالضبَّة والمفتاح.. وقفلوا معاها باب الرزق.. وشكلهم كده هيحولوا المعادى إلى جاردن سيتى تاينة». نظرت إلى ما يشير إليه السائق فوجدت موكبًا دبلوماسيًّا لا يحمل أى علم لأى دولة، يخرج من شارع 83 بالقرب من مدرسة القناة الابتدائية، ورغم أن الموكب لم يحدِّد أى هوية على سياراته، فإننى وجدت السائق يقول ساخرًا: «شالوم حاييم خبيبى». هنا حسمت أمرى وقررت أن أقتحم هذا الحصن الذى أطلق عليه سكان الحى الهادئ اسم «مستوطنة اليهود»، والحقيقة لم تكن رحلتى بالصعوبة التى تخيلتها فقد اعتقد الجنود لهيئتى التى تبدو غربية أننى إحدى السائحات أو موظفة فى إحدى الشركات الأجنبية. كانت أول ملاحظة لاحظتها بمجرد أن نزلت من السيارة، أن المعبد اليهودى تحوَّل إلى حصن عسكرى مطل على شارع مغلق بشكل كامل، بل إن مدخل الشارع كان مزيّنًا بلافتة زرقاء كتب عليها «تحذير.. الشارع مغلق»، وبمجرد دخول الشارع اقترب منى أحد أمناء الشرطة مستفسرًا عن وجهتى، وعندما أبلغته بأننى أرغب فى الذهاب إلى قسم الشرطة، فتح لى الحاجز، قائلًا «من هنا أقرب، ولكن حذارٍ من الاقتراب من سور المعبد». ورغم خطورة التصوير فى تلك الشوارع، فإننى تمكَّنت من التقاط صورتَين لشارع المعبد اليهودى المغلق دون أن يدرى رجال الأمن، وفى نهاية الشارع وجدت أحد حراس الفيلات يقف متذمّرًا يراقب موكب السفير الإسرائيلى الذى أربك الحى الهادئ، كان يلوح بيده ويتمتم بعبارات غير مسموعة على الإطلاق. اقتربت من الرجل الذى ما إن رآنى حتى ارتبك وزاغت نظراته بينى وبين الموكب الذى راح يبتعد داخل الحصن أو الفيلا التى يقطن بها السفير الإسرائيلى، راح الحارس يبتعد بضع خطوات إلى الخلف وكأنه يخشى مواجهتى، وكأنه ظن أننى سمعت همهماته الساخطة، فبادرته وأبلغته أننى أبحث عن شقة أو فيلا صغيرة كمقر لشركة أعمل بها موظفة. اقترب منى حارس الفيلا متحمسًا وقد زالت رهبته واعتلت الابتسامة وجهه، قائلًا «الفيلات هنا يا هانم أفضل مكان لإيجار الشركات.. بس أهم حاجة ابعدى عن شارع 13، وشوارع 84 و83 و82، هتوقف حالك وحال شركتك»، فسألته عن الأسباب، فأجابنى ساخرًا «إنتى ماشوفتيش الموكب العسكرى بتاع السفير الإسرائيلى.. من المعبد للمركز الأكاديمى للبيت.. وساعات للمقابر اليهودية كمان». تركت الحارس وقررت الاتجاه إلى آخر شارع 13، حتى امتداد شارع مدرسة القناة الابتدائية، لألتقط بعض الصور للتحصينات العسكرية لمنزل السفير الإسرائيلى حاييم كورن، وخلال الرحلة لفت نظرى عدم وجود أى شخص فى الشارع، فقط بعض رجال الشرطة، بعضهم فى زىّ مدنى والآخر بالزىّ الميرى، وفى نهاية الشارع لاحت المتاريس الحديدية فى نهاية سور المدرسة. «قفلوا علينا الطريق.. وباصات العيال بتضطر تلف المعادى علشان تيجى المدرسة.. والكارثة أن الإسرائيليين اختاروا فيلا محاصرة بمدارس القناة وفوزية والعبور، علشان يأمنوا أنفسهم»، بتلك العبارة همس لى أحد العاملين بمدرسة القناة الابتدائية، مبينًا أن منزل السفير لم يكن فى هذا الموقع، ولكنه كان فى شارع بورسعيد، ولكن اصطدام إحدى السيارات بسور حديقة منزله جعلته يترك هذا المنزل ويقوم بطلب تأمين شامل، مما أجبر الجهات الأمنية على غلق ستة شوارع تحيط بمنزله. نجحت أخيرًا فى اجتياز الحواجز الأمنية إلى السور الخارجى لمبنى السفارة والتقطت بعض الصور، كان منزل السفير محاطًا بسورَين، الأول بارتفاع 150 سنتيمترًا أسمنتى الهيكل، والثانى يبعد عنه بما يقرب من 6 أمتار، وما بينهما منطقة عازلة مكشوفة، وخلف الجدارَين يظهر منزل السفير الإسرائيلى، أما المدخل الرئيسى فيقع داخل حرم شارع 84 الذى تم إغلاقه بشكل كامل. «ماذا تفعلين.. هاتى الكاميرا»، فجأة ودون مقدمات خرج أحد رجال الأمن من خلف بعض الأشجار، اختطف من يدى جهاز «التابليت»، ثم انطلق إلى إحدى السيارات التى تقف خلف بعض الأشجار، ليسلم الجهاز إلى أحد ضباط الشرطة، والذى راح يحاول عبثًا أن يبحث عن أى صور قمت بالتقاطها، وبعد أن يئس سلَّمنى الجهاز وطلب منى مغادرة الشارع، لأن الوجود به غير مسموح باعتباره شارعًا مغلقًا. وكان منزل السفير الإسرائيلى فى شارع بورسعيد عبارة عن فيلا تتكوَّن من ثلاثة طوابق تحيط بها حديقة كبيرة، كانت فى الماضى ملكًا لأسرة أحمد عبد الوهاب الذى كان يشغل منصب وزير المالية فى عهد الملك فاروق، وبعد وفاته باعت أرملته الفيلا لرجل الأعمال المصرى حمزة الشبراويشى، ومنذ عام 1980 وهى مؤجرة للسفارة الإسرائيلية، لاستخدامها كمقر لسكن السفير الإسرائيلى. حى اليهود «ناقصين احنا مستوطنات يهودية»، هل تذكرون تلك العبارة التى أطلقها السائق فى بداية جولتى، بقصد أو دون قصد أصاب كبد الحقيقة بعض الشىء، فحى المعادى لم يكن بعيدًا عن اليهود وفكرهم، فللحى قصة يجب أن ندركها لنعلم الأسباب الحقيقة التى جعلت الإسرائيليين يختارون حى المعادى تحديدًا ليكون الوجهة الثانية للمقر الدبلوماسى. منذ سنوات خرج إلى النور أول كتاب عبرى قدَّمه المركز الثقافى الإسرائيلى عن تاريخ وحياة اليهود فى مصر وممتلكاتهم التى خلّفوها وراءهم، يحمل عنوان «الأماكن اليهودية فى مصر»، بالتعاون مع كل من الجامعة العبرية بالقدس ومركز «بن تسفى» لأبحاث الجاليات اليهودية بالشرق، سلط الضوء على الوجود اليهودى فى حارة اليهود بالموسكى وفى العباسية والفسطاط والمعادى وحلوان والإسكندرية ودمنهور. «اليهود هم الذين قاموا بإنشاء هذا الحى.. بل وكانوا يمتلكون أراضيه»، كان هذا أخطر ادعاء لمؤلف الكتاب الباحث الإسرائيلى يورام ميتل، مبينًا أنه عند البدء فى مدّ خط السكك الحديدية الرابط بين حلوان والقاهرة فى نهاية القرن التاسع عشر الميلادى، قامت عائلة «موصيرى» إحدى كبرى العائلات اليهودية المصرية خلال الفترة ما بين 1898 و1904، بشراء أراضٍ تقدّر مساحتها بنحو اثنى كيلومتر مربع، ثم بعد ذلك قامت شركة «أراضى الدلتا المصرية» التى كان يمتلكها رجال أعمال يهود وإنجليز بتخطيط وتطوير المنطقة مقابل حق تشغيل خط قطارات «القاهرة- المعادى- حلوان»، وقام ملّاك الشركة اليهود بتشجيع العائلات اليهودية المصرية والجاليات الأجنبية على الانتقال من وسط القاهرة للحياة فى هذه الضاحية الجديدة، التى سميت «المعادى» نسبة إلى المعدية النيلية التى كانت تربط المنطقة بالضفة الأخرى من النيل. ويشير الكتاب إلى أنه مع الانتهاء من تخطيط المنطقة على الطراز الإنجليزى بدأت العائلات اليهودية المصرية الغنية بالفعل فى الانتقال إلى هناك، وقامت بشراء مساحات شاسعة من الأراضى، بالإضافة إلى المسؤولين الإنجليز فى مصر، وعدد من الباشاوات المصريين، وتم فى البداية إطلاق أسماء مؤسسى الحى اليهود على الشوارع الرئيسية بالمعادى، مثل: قطاوى، وموصيرى، ورولو، ومنشيه. كتاب «الأماكن اليهودية فى مصر» زعم أن اليهود كانوا حتى الحرب العالمية الثانية أكبر جالية أجنبية مقيمة فى حى المعادى، حيث كان يقيم هناك فى عام 1945 نحو 555 أسرة يهودية، تمثل ثلث سكان المعادى، وتتمركز فى جنوب شارع 83 الذى كان يُعرف باسم «الحى اليهودى»، وقامت بإنشاء نادى المعادى لعقد لقاءاتها وممارسة هواياتها مع الجولف والكروكيه والتنس والهوكى والفروسية، وكان من أشهر العائلات اليهودية التى كان لها أملاك فى المعادى عائلات «عدس» و«شيكوريل» و«مزراحى» و«هرارى» و«موصيرى»... وغيرها. الغريب أنه طبقًا للباحث «يورام ميتل» أنه خلافًا لباقى أحياء القاهرة، فإن أول دار عبادة أُقيمت فى المعادى لم تكن مسجدًا مثلما هو متعارف عليه فى مصر، بل كانت معبدًا يهوديًّا أقامته شركة «أراضى الدلتا المصرية» فى عام 1934، وسمى باسم «مائير يهودا» نسبة إلى مسؤول الشركة اليهودى صاحب فكرة إنشائه، والذى كان يقيم فى فيلا ملاصقة للمعبد، وبعد هذا التاريخ بعام تم إنشاء أول كنيسة مسيحية فى المعادى، ولم يتم إنشاء مسجد إلا فى عام 1939. الموافقة الأمنية «من الجيزة إلى جسر السويس إلى القاهرة الجديدة.. لم يكن هناك أأمن من المعادى».. العديد من المصادر الدبلوماسية بوزارة الخارجية اتفقت على ذلك، مبينين أن المقر الجديد للسفارة الإسرائيلية ليس منزل السفير الإسرائيلى، ولكنه قطعة أرض تم الاتفاق عليها وما زالت تحت الإنشاء، وأن تصميم المبنى يحمل مواصفات خاصة لتفادى سيناريو اقتحام السفارة فى العمارة فى 2011، وأن إسرائيل كثيرًا ما كانت تضغط طيلة أربع سنوات لإيجاد مقر جديد للسفارة، ولكن القاهرة كانت ترفض إعطاء الموافقات لاعتبارات أمنية، غير أن البعثة الدبلوماسية كانت تمارس علمها من خلال منزل السفير والمعبد اليهودى والمركز الأكاديمى بحى المعادى. الكارثة أن السفير الإسرائيلى حاييم كورن، وَفقًا لمصدر دبلوماسى مسؤول، استغل غياب مقر للسفارة الإسرائيلية ودأب على إقامة لقاءات خاصة فى بعض القرى السياحية فى طابا وشرم الشيخ، فلا يوجد خلال الفترة من الأربعاء إلى الأحد من كل أسبوع فى القاهرة، ويقوم بالاختلاط بالشعب المصرى مستغلًّا لغته العربية، مشيرًا إلى أن إسرائيل رفضت عددًا من المقرات اقترحتها القاهرة فى التجمع الخامس والسادس من أكتوبر وجسر السويس والشيراتون، بل واقترحت شراء مقر الجامعة الأمريكية المطل على ميدان التحرير. وقال المصدر الدبلوماسى إن «مناحم بيجن» هو الذى اختار مقر السفارة المقتحمة فى الجيزة المطلة على النيل بنفسه، وقال حينها «إن هذا الاختيار يرجع لأول تطبيق عملى على الأرض لحلم أرضك يا إسرائيل من النيل للفرات». وأكد اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات العامة الأسبق، أن «أمن السفارة مسؤولية الدولة المضيفة، وأنه لا بد من أخذ موافقة وزارة الداخلية، كما أن السفارة لا تقتصر على مقر مكتب السفير والقنصل فقط، وأن هذا التجمع فى حالة وجود مقر رسمى للسفارة سيحتاج إلى تأمين مكثَّف ووحدات من الأمن المركزى، وهو أمر صعب الآن»، مبينًا أهمية تجمع جميع دبلوماسيى إسرائيل، بالإضافة إلى المركز الأكاديمى فى حى المعادى، ليسهل تأمين الجميع، حتى لا تتكرر أحداث اقتحام السفارة فى 2011. وحول انزعاج أهالى حى المعادى من مقر السفارة الإسرائيلية وتحويل الحى الهادئ إلى ثكنة عسكرية، أوضح وكيل المخابرات الأسبق، أن وجود المقر فى هذا الحى الهادئ وإحاطة مدراس الأطفال مقلق بالطبع لسكان المنطقة خوفًا من وقوع أى حادثة إرهابية فى تلك المنطقة، لافتًا إلى أن ما يقوم به السفير الإسرائيلى من تواصل على مواقع التواصل الاجتماعى وتهنئة الشعب المصرى فى المناسبات يأتى فى إطار فرض إسرائيل للتطبيع على الشعب المصرى ومحاولة كسب الود. أما الدكتور محمد أبو غدير، أستاذ الدراسات العبرية والإسرائيلية، فأكد أن مبدأ المصلحة هو الذى يحكم علاقتنا بإسرائيل، لاعتبارات عديدة على رأسها التنسيق الأمنى فى سيناء، لذلك لا مانع فى وجود سفارة وسفير، لأن هذا فى صلب اتفاقية السلام بيننا، لافتًا إلى أن المصريين ما زالوا يتعاملون مع إسرائيل بعقلية العربى العاطفية، وهذا لا يتناسب اليوم فى التعامل مع إسرائيل. أبو غدير قال «مع تعيين سفير مصرى جديد فى تل أبيب ستأخذ العلاقات المنحى الطبيعى مرة أخرى، لأن السياسة لا تعرف العواطف، وليست لها قواعد ثابتة، ولكنها قائمة على المصالح والأهداف القومية»، مشيرًا إلى أن علاقة مصر بإسرائيل اليوم أقل من علاقة إسرائيل ببعض الدول العربية والخليجية. ولفت أبو غدير إلى أن مسألة السفارة الإسرائيلية فى القاهرة مسألة إسرائيلية لا تعنينا، لأن مصر لها سفارة فى إسرائيل منذ أوائل الثمانينات لم تغيّر مقرها حتى الآن، مضيفًا أن اختيارهم حى المعادى كى يكون مقرًّا للسفارة يعود إلى اعتبارات أمنية، ولتكون قريبة أيضًا من مقرات السفارات الأجنبية، مؤكدًا فى الوقت نفسه أن جيران السفارة الإسرائيلية وأهل المعادى سيدفعون الثمن بسبب الإجراءات الأمنية المشددة وغلق الطرق فى تلك المنطقة. «من حقّهم سفارة.. وعلينا أن نحميها».. بتلك العبارة بدأ السفير محمد عاصم، سفير مصر السابق فى تل أبيب، مبينًا أن إسرائيل من حقها أن تكون لها سفارة مؤمنة فى القاهرة طبقًا لاتفاقية فيينا المحددة للحصانة الدبلوماسية، وأن دور مصر حماية السفارة والبعثة الدبلوماسية الإسرائيلية، مثلما يفعلون لسفارتنا وبعثتنا الدبلوماسية فى تل أبيب. أما الدكتور سمير غطاس، رئيس منتدى الشرق الأوسط والمستشار السياسى لحركة «الشباب أولًا»، فيؤكّد أن التمثيل الإسرائيلى فى مصر أضحى أقل من أى مرحلة سابقة، مبينًا أن الوضع الراهن للسفارة الإسرائيلية أفضل لعدم تعرضها لأى هجمات إرهابية فى ضوء ما تشهده مصر من إرهاب، مضيفًا أن إسرائيل تأخذ الوضع الأمنى فى مصر بعين الاعتبار، لأن وجود مقر معلن اليوم من الممكن أن يمثل خطرًا على حياة البعثة الدبلوماسية، الأمر الذى قد يتسبّب فى إحراج مصر.