فرحنا أمس.. ومن حقنا (بل ربما من واجبنا) أن نفرح ونحتفى ونفخر بإنجاز حقيقى بطله شعبنا الصابر المناضل الذى يسكن ميراث حضارته التليدة تحت جلده ويستعين به فى جهاد عظيم ومعركة باسلة وصعبة جدا، يخوضها الآن من أجل الحياة ولكى يعيش حرًّا نظيفًا من فيروسات القبح والسوء والتخلف والظلم والتأخر وفقدان العدالة. نعم من حقنا أن نفخر بقدرتنا على صنع الأساطير ونقلها من فضاء الأحلام إلى أرض الحقيقة.. لقد جمع المصريون من لحمهم الحى أكثر من 64 مليار جنيه فى أقل من أسبوع واحد، فى إشارة مذهلة وبليغة إلى عزمهم الجبار بأن يعيدوا بناء بلدهم ويضمدوا جروحهم بأيديهم، وأنهم قادرون بقوتهم الذاتية على جرف وكنس ركام الخرائب الهائلة التى تراكمت فوق صدورنا على مدى حقب وسنين سوداء طويلة. كتبت هذه السطور صباح أمس، ولم أسمع أو أعرف ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسى وهو يقف وسط ضيوفه على شط قناة اختلطت المياه الجارية فيها بدم جحافل شهدائنا، ابتداء من يوم حفرها الأول (مات فيها أكثر من 120 ألف عامل فى وقت كان عدد السكان فيه أقل من 4 ملايين)، وانتهاء بشهداء حروب ومعارك الشرف التى خضناها دفاعا عن حقنا فيها وعن سلامة تراب الوطن كله.. لست أعرف ما قاله الرئيس، لكنى كنت واثقا ومتأكدًا أنه لن ينسى تحية أرواح شهدائنا الأبرار الذين لولاهم ما عرفنا ولا تذوقنا طعم الفرح أصلا. غير أن شيئًا ثقيلا فى قلبى حاولت أن أتجاهله وأنساه لكى لا يلوث شعورى بالفرح والزهو والفخر، غير أننى للأسف فشلت، فقد تذكرت وجوهًا نضِرة لزهرات وزهور من أجمل وأنبل وأخلص شبابنا الذين كانوا وقود ثورتين هائلتين (25 يناير، و30 يونيو) تفجرتا فى وجه عصابات لصوص وقتلة حاولوا نشل هذا الوطن والحفاظ على خرابه الشامل، وتهديد وجوده وتقويض كيانه دولة ومجتمعًا.. تذكرت هؤلاء (بعضهم، مثل الفتى محمد عراقى، أسهم بقروشه البسيطة فى ملحمة تمويل مشروع القناة) ولم أتمكن من مغالبة دموع سالت فعلا ونطقت بأمنية كنت وكثيرون غيرى تمنيناها، أن نفرح معهم وبهم وهم طلقاء أحرار من قيود وأغلال وجدران سجون وزنازين، ليست للأطهار الأنقياء من أمثالهم، وإنما للصوص والفاسدين والمجرمين وعصابات الإرهابيين وشياطين العنف والتخريب، فحسب. هل قدرنا أن تظل أفراحنا ناقصة؟! هل كثير علينا أن نبتهج بهجة كاملة لا يغبّشها ألم أو وجع؟! الأخطاء والخطايا ليست قدرًا، لكنها فعل من أفعالنا نستطيع تصحيحه ويمكننا علاجه. يا أيها السادة: بمقدورنا تقليل ثمن النصر فى الحرب التى نخوضها حاليا ضد الإرهابيين وأعداء الحياة، وأن نختصر زمن بلوغه، إذا رممنا بسرعة الشروخ التى أصابت سبيكة «30 يونيو» الثمينة فتسربت منها شريحة من شبابنا المتعلم الذى فاض حبه وحماسه الزائد للوطن وأهله فارتكب أحيانًا ما قد يعتبره بعض العواجيز «حماقات وسفاسف» صغيرة.