يبدو أننا أمام جيل جديد من المبدعات. أسعدنى كثيرا أن أقرأ المجموعة القصصية «مائدة واحدة للمحبة» للكاتبة الشابة أريج جمال، الصادرة عن دار «روافد» للنشر والتوزيع. أدهشتنى بامتلاكها ناصية السرد القصصى، بتجربتها وقاموسها الخاص، بقدرتها على التعبير عن تفاصيل المشاعر والأحاسيس، وبراعتها فى رصد تلك المساحة الفارغة بين الحلم والواقع. أريج تقدم نفسها بقوة من خلال 88 صفحة و11 قصة قصيرة فقط، ولكنها كافية جدا لتؤشر على موهبة عظيمة مطرزة بالثقافة والخيال الذكى، لغتها الشعرية موظفة جيدا فى إطار فكرة كل حكاية، إنها تصنع من الكلمات شموعا تتحدى بها ظلام الوحدة والخوف، وتحكى بعمق عن لحظات الحب القصيرة، لديها حساسية عالية تجعلها قادرة على استدعاء الأصوات والصور، إديث بياف وفيلم «أحلى الأوقات» وفيرجينا وولف وداليدا وأنسى الحاج، تستدعى ما شاءت بطريقة سلسة بعيدة عن الحشو أو الادعاء. تلوّن أريج حكاياتها ولحظات إحباطها بأطياف من المشاعر الصادقة، أحس أنها تستجمع كل حياتها فى لحظة لتكتب عنها، بارعة حقا فى بث الحياة فى الأشياء: تخاطب بيتا، تسمع نملة، تطارد عصفورا، ترسم قمرا، تخلق من الجدار وجوها، تصنع من الزجاج مرايا، وتلتمس معونة وعزاء من فنجان للقهوة. الأشياء فى سطورها ليست أقل حياة من البشر، والحب فى قصصها طوق نجاة، فناء فى الآخر، أما الفراق فهو وداع بلون الموت، خطّان يرسمان ملامح تجربة خاصة ومجموعة من أفضل ما قرأت خلال السنوات الأخيرة: حب وفراق، وحضور وغياب، هذا الجدل بين الخطين يمنح القصص حيوية ومذاقا فريدا. أريج جمال تستحق تماما الإطراء الذى كتبه عن موهبتها وكتابتها الناضجة صديقى العزيز الناقد إيهاب الملاح، ومجموعة «مائدة واحدة للمحبة» تستحق القراءة بامتياز، استمتعوا بقصص قصيرة من طراز رفيع شكلا ومضمونا. لا تزيد صفحات هذه المجموعة القصصية عن نحو 60 صفحة فقط، ومع ذلك فهى تترك فى ذهن قارئها انطباعا قويا، بلحظاتها الإنسانية، بخيالها الخاص، وبلغتها الصريحة، ومن قبل ومن بعد بموهبة مؤلفها الشاب. «من داخل غرفة زرقاء» الصادرة عن الكتب خان تضم 9 قصص قصيرة كتبها محمود دسوقى بعبارات مقتصدة، أمسك فيها هواجس شخصياته وإحباطاتهم، وحافظ لقارئه على متعة التأمل والاكتشاف. هذه المجموعة تقدم كاتبا مميزا للقصة، وهو أيضا كاتب سيناريو لمسلسلات تليفزيونية مثل «أبواب الخوف» و«الجامعة». شخوص الحكايات تسكنهم الوحدة أيضا، ويحاصرهم الملل والإحباط، يتأملون أنفسهم والآخرين، يصفهم دسوقى من الداخل ومن الخارج، لديه قدرة لافتة على أن ينقل إليك الحالة بكل تفصيلاتها، كما أنه يتلاعب بشكل جيد بفكرة الأنا والآخر، وبتبادل الأماكن والمواقع والهموم والفضفضة بين الشخوص (قصص مثل «البار» و«سلمى فى مدينة الزجاج» و«ملل الرغبة» و«وحدة» كنماذج)، ودوما لا يكتمل التواصل أو يستمر، وكأن أبطاله عابرون (البار/ ميريت أصفر/ سلمى/ ملل الرغبة)، ولدينا أيضا خيال خصب يكشف عن قلق دفين (قصص مثل: عشاء متأخر/ الخرتيت الأسود/ حبّ الشباب)، ومزج بارع بين الذاتى والموضوعى (ميريت أصفر/ تكتا كالون)، أما الزمن فهو هاجس يطارد الجميع، كأنه قطار يسحق ذاكرتهم، يتمسكون بشىء من شباب غارب. يكتب دسوقى بالصورة واللون والحركة، يبدو متعاطفا للغاية مع شخوصه، مع إحباطاتهم، مع لقاءاتهم التى هى بطعم الفراق، ويقيم جسورًا بين البشر والكائنات والأشياء (علبة سجائر، باب مغلق، كلب، خرتيت أسود، قطعة من الرنجة)، يستخدم ما حول الإنسان لكى يعبر بطريقة أخرى عن هواجس مطمورة، وهناك دوما مساحة أو أسئلة فى كل قصة متروكة لكى يستكملها القارئ، بعد أن أصبح شريكا فى مأزق الشخصية. يقول دسوقى إن لون حجرته أزرق، لذلك اختار ببساطة أن يجعل ذلك عنوانا لمجموعته، تفسير بسيط يشى بكثير من الذاتية والحميمية، لكنه فى كل الأحوال متسق مع دلالات الأزرق، أليس هو أيضا لون الحزن والانتظار عند شخصياته؟ أرشح لكم بقوة وبحماس قراءة هذه المجموعة القصصية التى أعتبرها من أذكى وأظرف ما قرأت خلال السنوات الأخيرة. اسمها « خطأ 404» ومؤلفها ميشيل حنا وصدرت عن سبارك للنشر والتوزيع.. الاسم غريب لكنه فى صميم معنى فكرة المجموعة. العنوان هو ترجمة للعبارة التى تظهر أمامك على شاشة الكمبيوتر إذا كانت الصفحة غير متاحة أو لا يمكن الوصول إليها، وقصص المجموعة كلها عبارة عن حوارات لأشخاص يستخدمون نفس اللغة والألفاظ، ولكن لا يوجد بينهم رغم ذلك أى فهم أو تواصل، حتى مقدمة المجموعة التى تشرح فكرتها كتبها ميشيل على شكل حوار، لقطات ساخرة ومدهشة تؤكد فعلا أن ما بيننا ينطبق عليه تعبير «حوار الطرشان»، وأننا نلف وندور دون أن نقول شيئا مفيدا، وأنه لا يوجد اثنان تقريبا على نفس الموجة، أمر يقترب من العبث، مجرد حوار مستمر فقط: زوج وزوجة، اثنان أطباء فى نوبتجية ليلية، اثنان من مهاويس التكنولوجيا، رجل يبحث عن دواء فى صيدلية، أُمٌّ تملى ابنتها ما تحتاجه من بقالة. القصص لها بداية ووسط ونهاية مثل أى قصة قصيرة، وكاتبها شديد الوعى بفن القصة، ميشيل حنا أيضا من أفضل الكتاب الساخرين، ضحكت كثيرا، وأعجبتنى قدرته على ضبط المفارقات التى أصبحت جزءا من حياتنا العادية، فلم تعد تثير دهشتنا، ليته يجرب كتابة مسرحية، لديه موهبة عظيمة فى بناء الحوار الساخر، وهو أمر شديد الصعوبة ، هذه المجموعة الممتعة عن ثرثرتنا وخيبتنا اليومية العشوائية، عن فشلنا المزعج فى التواصل، عن تلك الجعجعة التى لم ولن تنتج طحينا.. مجموعة قصصية بارعة. أتحدث أخيرا عن مجموعة «أن تكون معلقا فى الهواء» لنهلة كرم الصادرة عن دار الدار، التى وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس. لقطات إنسانية كتبت بحساسية عالية، وفكرتا الخوف والتمرد تعلنان عن نفسيهما فى المجموعة، مثلما ستظهران بعد ذلك فى رواية نهلة الأولى الجيدة «على فراش فرويد»، الكاتبة تصف الخوف والتمرد بمنتهى الدقة والقوة، كأنها تعكس ذاتها على بطلات الورق. هناك أيضا عناية بالتفاصيل، وبالكتابة المصوّرة التى ترسم الحركة واللفتة والإيماءة، تتنفس الأشياء وتتزاحم الشخصيات، مع عناية واضحة بالدراسة النفسية العميقة. مجموعة ناضجة أرهصت بموهبة تأكدت روائيا بعد ذلك. عمل هام ومميز يستحق القراءة بجدارة.