هى أيامنا الحلوة، كلٌّ منّا له أيامه الحلوة، وليس فقط عمر الشريف ورمزى وعبد الحليم وفاتن. تنهيدة سرت من أعماق قلبى وأنا أغادر منطقة نصف البلد الساكنة فى ظلام الساعة الأخيرة من الليل الساكت قبيل مدفع الإمساك وأذان الفجر، ميدان التحرير الذى جددوه ووضعوا فى منتصفه علم مصر على سارٍ شاهق يحدق وحيدًا فى ظلام السماء. الطلاء الجديد لقاعدة العلم يلمع فى ضوء أعمدة الإنارة الصفراء. فى قلب ظلام رمضان غاب البشر تماما، سيارة عابرة أو تاكسى متهالك يمر من هنا أو هناك كل بضع ثوان وفقط، بقايا المقاهى خاوية تماما، لا أحد فى أى مكان، الأرصفة فارغة إلا من بقايا أوراق وأكياس بلاستيكية تلهو مع النسمات. الصور المرسومة على ناصية شارع «محمد محمود» لا تزال باقية تحدّق فى وجهى وحيدة فى ظلام فارغ لا شىء فيه، مخيفة قليلا كأنها أشباح سوف تتلبسها أرواح أصحابها فى اللحظة التالية مباشرة فتخرج من الجدران وتسير فى الشارع تتأوه وتتألم من بقايا الرصاص الحى والخرطوش الذى كان! كأنها تريد أن تنطق وتحكى فلا تستطيع، صامتة لكنها حية بعنف، تنظر إلىَّ وترقبنى بعيون تمتلئ لومًا، ما هو ماعادش هنا غيرى وقد أصبحت وحدى تمامًا! موجوعًا أعطيت ظهرى إلى الميدان وركبت سيارتى ورفيقة أسفارى وغادرت فى اتجاه كوبرى عباس، وعلى الكوبرى لم يطاوعنى قلبى فأوقفت السيارة على اليمين فى منتصفه، سرتُ ببطء فى اتجاه السور المعدنى الأخضر وحدَّقت إلى الأسفل فى الماء الأسود الداكن يتلاعب تحت نور القمر ويعكس ألوانًا من فضة. رفعتُ رأسى إلى السماء لأرى السحاب الخرافى يمر فوق النيل مخترقًا ضوء القمر فى هدوء وصمت. وجع لحظى محسوس شعرت به فى صدرى، بالتحديد فى منطقة فُمّ المعدة! ثم صعد على الفور إلى أعلى الحنجرة، وكعادتى عندما أكون وحدى تماما مطمئنا أن أحدا لا يسمعنى تكلمت فى ضيق بصوت عالٍ مسموع «يا رب! نفسى أطلّع قلبى ده من صدرى وأرميه فى النيل وأروّح أنام زى ما الناس بتنام!» سمعت صوت حركة مفاجئ يأتينى من أسفل، قطة كانت على مسافة قريبة جدا أزعجها صوتى المرتفع فيما يبدو فتحركت مبتعدة، خاطبتها متفاجئًا معتذرًا بلهجة ضباط الشرطة «آسف جدا يافندم، آسفين جدا والله!». هو العشق الذى يغيّر كل شىء فى عيون البشر ليصبح أحلى وأجمل، هذه الشوارع وذلك الحجر وهؤلاء البشر وتلك الأركان والنواصى والقلوب الممتلئة عن آخرها بالأمل والأرواح المحملة عن آخرها بالأحلام، يااااه! طبق الفول فى جاردن سيتى وساندوتش الكبدة الإسكندرانى والناس اللى رايحة جاية والأبنية القديمة جميلة الطراز التى تطبق الليلة بأحجارها على صدرى، يا ليتنى ما جئت هنا الليلة، لهفة قلبى على كل ما هو مصر، تلك التى استهلكتنى وأنهكتنى فوق كل وصف لسنوات وسنوات وأكلت من طاقتى وعمرى وصحتى وتفكيرى وعواطفى وأحلامى وأمنياتى فى كل لحظات نومى ويقظتى، نوم إيه؟! أقصد لحظات يقظتى ويقظتى. «هيا الدنيا ضحكت علينا ولاّ إيه؟!» ويأتينى صوتى الساخر حاملا الرد «علينا مين سيادتك؟ هوا انت شايف هنا حد غيرك؟ ده حتى القطة طفشت!». تفاجئنى نسمة هواء رطبة مسافرة بسرعة فوق مجرى النهر فأغمض عيناى لأتذوق مشاعر افتقاد غير مفهومة، وتطوف بذاكرتى وقفة منذ سنوات على كوبرى قصر النيل، كنا نرتدى الملابس السوداء ونحمل المصاحف نقرأ كلام الله على روح خالد سعيد، كان الوقت شتاء والجو قارس البرودة والريح عاتية فارتجفتُ، وإذا بشاب يفاجئنى، خلع سترته ووضعها على كتفى ثم هرب مسرعًا لكى لا يترك لى أى فرصة للاعتراض، وصدى صوت يصيح فى وجهى فى قلب الضرب والغاز فى محمد محمود «ارجع من هنا يا سيادة المستشار! بلاش انت لو سمحت، لو احنا متنا عادى، لكن انت لو جرى لك حاجة حتبقى مصيبة!»، ولد آخر صغير غلبان يتباعد ساعة التقاط الصور قائلا «بلاش أنا، أصل شكلى مش حلو ومش عايز الحكومة تقول عليكو بلطجية!»، وطفل صغير فى الميدان يسألنى «تشرب شاى يا عمو؟!» وأرد مبتسما «وماله! هات يا ابنى»، يذهب ويعود مسرعًا وفى يده الصغيرة الكوب البلاستيك الأبيض يرتفع منه الدخان، أناوله بعض المال فيمتنع قائلا «لا يا عمو، مش عايز فلوس... ده هدية!!» المراكب الخشبية على البعد راسية تنام مطمئنة فى مراسيها. لحظات العمر الجميلة تتعرض أحيانًا للتلف على نحو يتعذر معه إصلاحها إلى الأبد، فهل فات الوقت؟ سؤال بسيط يا مصر: قولى لى أطلع من هنا على فين؟ نظرت إلى سيارتى الواقفة معى تنتظرنى، هل حان حقًّا وقت الرحيل؟ أعطيت ظهرى وبدأت أتحرك ببطء مبتعدا فى الاتجاه الآخر، متر بعد الآخر وأنا أشعر بقطعة منى تتمزق والغصة فى الحلق تتزايد وطبقة رقيقة من الدموع تتصاعد مع صوت أذان الفجر القادم من بعيد «الله أكبر الله أكبر.. أشهد ألا إله إلا الله... أشهد أن محمدا رسول الله».