كتب - محمد شعبان: دخان كثيف يملأ جنبات الغرفة سيجارة تلو الأخرى، يجلس بالقرب من المذياع، يستمع لموسيقى هادئة، يذهب مع ألحانها العذبة بعيدًا عن أجواء الضغط التي يعيشها، كيف لا وهو يحمل أعباء شعب كبير، يرى فيه الأب والقائد والمنقذ. فجأة.. جرس الهاتف يتناهى إلى سمعه، يقرر الرد برغم أن أذان الفجر أصبح قريبًا، "ألو.. يوة يا حاج مدبولي" يرد بشئ من الدهشة: "مدبولي مين يا أمي، أنا جمال عبد الناصر"، لتنتهي مع هذه الكلمات المقتضبة تلك المكالمة. يعود ليشعل سيجارة وينهمك في التفكير لما هو قادم من أحداث لا يعلم عواقبها إلا الله، قرار خطير قرر أن يتخذه بكل جرأة وشجاعة ضاربًا بتهديدات وتوجيهات المستعمر عرض الحائط، وللمرة الثانية على التوالي مكالمة جديدة: "ألو.. يا حاجة قوليلي ابنك فين وأنا هبتعهولك.. انت مين يا ابني"، يرد عليها بعدها: "أنا جمال عبد الناصر يا حاجة"، هي: "ربنا ينصرك يا ابني".. لتقع كلمات السيدة المصرية الأصيلة على أسماعه بقدر من السكينة والطمأنينة، وكأنها رسالة من السماء: "لا تتردد". ينظر إلى مشهد الشروق عبر شرفة قصره الرئاسي بالإسكندرية، يشخص ببصره نحو السماء، طالبًا العون من الله والتوفيق لما هو آت، وذلك قبل ساعات من بدء احتفالات ثورة 23 يوليو، والتي ينتظرها الجميع لمعرفة ما سيسفر عنه في ظل توتر العلاقات المصرية الأمريكية عقب رفضها تمويل السد العالي. ساعة تلو الأخرى، جرس الهاتف لا يتوقف، اجتماعات مستمرة، يوم طويل وشاق، يتمنى أن ينتهي بقدر من السعادة يسبقها التوفيق، ومع غروب الشمس، يصعد لغرفته برفقة زوجته تحية محمد كاظم ذات الأصول الإيرانية، التي تخبره بان الله لن يخذله، وتدعو له، وتربت بشئ من الحنان على كتفه "متقلقش يا جمال.. إن شاء الله ربنا هيوفقك"، لتسله بعدها عما سيرتدي خلال الاحتفال. خرج من منزله مرددًا بعض الآيات القرأنية، ويستقل سيارته ضمن موكبه الرئاسي في طريقه لمقر الاحتفال بميدان المنشية، جموع غفيرة جاءت من كل حدب وصوب، تنتظر خطاب الزعيم جمال عبد الناصر الذي طال انتظاره ليشعل في قلوبهم الحماسة نحو غد أفضل. "باسم الأمة، قرار من رئيس الجمهورية تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية"..سطر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بهذه الكلمات تاريخًا جديدًا لمصر، ليكون يوم 26 يوليو 1956 بداية الانطلاق نحو "مصر الجديدة"، لينقض بعد هذه الجملة الثلاثي محمود يونس، وعبد الحميد أبو برك، وعادل عزت على مكاتب الشركة بمحافظات الإسماعيليةوالسويس وبورسعيد؛ لضمان الحصول والحفاظ على مستندات القناة والدفاتر الملاحية. ونحتفل اليوم بالذكر ال59 لتأميم القناة، لكن هذه المرة سيكون للاحتفال مذاقًا خاص، كيف لا وتستعد مصر بل والعالم أجمع لافتتاح قناة السويس الجديدة بسواعد وأموال المصريين وحدهم، في تحدِ كبير وإنكار للنفس وملحمة وطنية في حب الوطن، حيث تمكن القائمون والمشاركون في المشروع من تنفيذه في عام واحد وهو بمثابة الإعجاز. أسرار معركة تأميم قناة السويس أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء تشكيل مجموعة عمل لوضع الدراسات اللازمة في قناة السويس، وتضم : "علي صبري، سامي شرف، أمين نور الشريف)، وكلفت بجمع الإحصاءات والمعلومات الضرورية لنشاط شركة قناة السويس في كل الاتجاهات. وبحسب رواية سامي شرف، أنه في 17 نوفمبر 1954، أشار عبد الناصر في إحدى خطبه، إلى الفترة المتبقية من عمر امتياز شركة قناة السويس، وضرورة استثمارها كفترة تحضير لتأهيل المصريين لإدارة القناة بعد تسلمها من الشركة. وفي 1955، انضم للمجموعة السابقة كل من، الدكتور محمود الحفناوي، والدكتور حلمي بهجت، ومحمد علي الغتيت، وانتهت دراسات تلك المجموعة عام 1968 إلى ضرورة الإسراع في وضع القناة تحت السيادة المصرية بالكامل دون ان تستخدم مصطلح "التأميم". وفي مارس 1956، أثناء زيارة وزير الخارجية البريطانيسلوين لويد للقاهرة، تطرق الحديث إلى قناة السويس، حيث أشار "لويد" إلى أن بلاده تعتبرها جزءًا من مجتمع البترول بالشرق الأوسط، فرد عليه الرئيس أن الدول العربية تتقاضى 50% من أرباح البترول، بينما تحصل مصر على 5% دون التعامل معها باعتبارها دولة منتجة. ويقول سامي شرف، سكرتير الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات، إنه أثناء عودة الرئيس والوفد المرافق له من يوغوسلافيا في 19 يوليو 1956، طلب الرئيس سماع نشرة الأخبار عبر "بي بي سي" التي أعلنت ضمن أخبارها أن أمريكا قررت سحب عرض المساهمة في تمويل السد العالي. وعقب مغادرة رئيس وزراء الهند للقاهرة عقب زيارة قصيرة، اجتمع الرئيس عبد الناصر بالمشير عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وجمال سالم وزكريا محي الدين وحسين الشافعي وصلاح سالم وعلي صبري بمجلس الوزراء، وتم طرح لأول مرة فكرة "تأميم القناة"، والذي قوبل بموافقة جماعية من الحاضرين، وتم ترشيح المهندس صدقي سليمان أو المهندس محمود يونس لتولي تنفيذ تلك المهمة. وفي يوم 26 يوليو 1956، قبل توجه الرئيس إلى الإسكندرية لإلقاء خطابه، اجتمع مع أعضاء مجلس قيادة الثورة في القطار الخاص الذي أقلهم، وتم عقد لقاء آخر بعد وصوله للإسكندرية في استراحة ستانلي مع مجلس الوزراء، وأعلنهم بالقرار الذي يعتزم إعلانه بتأميم قناة السويس. وركز "عبد الناصر" على قصة تمويل السد العالي وربط بين يوجين ملاك، مدير البنك الدولي، وبين ديليسبس، وكان اسم الأخير هو الاسم الحركي لعملية التأميم، حتى أنه كررها أكثر من مرة خلال خطابه حتى يتأكد محمود يونس تمامًا من البدء في إجراءاته، ليعنلها صريحة في نهاية خطابه.