هناك مشهد كنت أراه فى شوارع الإسكندرية والقاهرة، ويثير حوله مجموعة من الأحاسيس المتباينة. تلك المحال التى لها أبواب زجاجية، عادة ما كنت تجد مصحفا كبيرا فى الحجم مفتوحا وموضوعا على كرسى وراء الباب الزجاجى مباشرة. من الممكن أن يضع صاحب المحل الغائب مصحفا صغيرا، فقوة المصحف ليست فى الحجم، بل فى المعنى الذى يمثله. لكنه ربما فكر أن المصحف الكبير يخطف عين اللص أو الحاسد ولا يجعلهما تنظران باتجاه البضاعة المصفوفة خلفه. غالبا ما يكون المصحف فى مقدمة المشهد، وليس متواريا بين ثنايا المحل، بحيث لا يراه اللص القادم، ويؤدى نفس وظيفته فى الحماية المستترة! صاحب المحل هنا يريد استخدام صورة المصحف، بشكل مباشر ودون مجازات، أكثر بكثير من تقديره للمعنى الكامن بداخله. يتحول المصحف المفتوح إلى رسالة وقوة رادعة موجهة للص مفترض ستغريه تلك البضاعة المكشوفة، لعله يتراجع أمام قوة وقدسية هذا المصحف المفتوح. المصحف، هنا، مرجع متفق عليه وعلى رسالته ووظيفته بين صاحب المحل واللص المفترض. عادة ما تنشأ علاقة بين صاحب المحل وهذا اللص المفترض، مصدرها هوس السرقة الذى يشعر به أى صاحب محل أو رأس مال. ليس هذا فقط، بل أحيانا يتحول هذا اللص إلى صديق تتقصى نفسيته وطريقة تفكيره عبر شراك تضعها له داخل ظلام المحل، حتى يسقط حتما فى إحداها. يصبح اللص شخصية حقيقية تضاف إلى قائمة أصدقاء أصحاب المحال، ولكنها غير مرئية، لذا يكون لها سطوة أكبر. وضع المصحف، بهذه الصورة، هو رسالة خليط من الاسترحام والرجاء، موجهة من قِبل صاحب المحل، لهذا اللص الليلى. يرجوه فيها ويستعطفه، ويستحلفه بأغلى ما عنده، وهو هنا المصحف، بأن لا يقترب من أملاكه الخاصة فى أثناء غيابه. هناك نوع من الصداقة الملتبسة تنشأ بين صاحب المحل وهذا اللص المفترض، صداقة اقتسام الشىء العزيز الذى تملكه، مع ذلك الشخص الخفى الذى سيشاركك مالك ويقتسمه معك، مثله مثل القريبين الذين يقتسمون أو يرثون مالك، فى حياتك أو موتك. وأيضا وضع المصحف مفتوحا بهذه الصورة هو أيضا رسالة يوجهها صاحب المحل إلى الله، ركوع دون جسد، وخشوع صامت ورجاء ملِّح؛ بأن يحمى ممتلكاته، بقوة هذا المصحف، الذى ينوب عنه، ومنزلته عنده. ما زالت العلاقة تتسع بين صاحب المحل واللص المفترض، وتتشابك وتتفرع فى أكثر من مسار، لتصبح ككل العلاقات التاريخية؛ هناك مكان لله بداخلها. مهما كانت غرابة أو تطرف أو شكل العلاقات، هناك مكان يشغله الله داخلها، حتى ولو حدثت السرقة، وتم اقتسام المال بين صاحب المحل واللص، هناك إمكانية للقصاص بعد إتمام سرقته، بأن لا يهنأ اللص بما سرقه، أو يتحول المال، لو أراد الله، فى يديه إلى تراب. فى رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب» تقوم صداقة وطيدة بين الصحفى الشهير وبين سعيد مهران اللص المفترض، أو الشخص الذى سيصبح لصا نتيجة لحاجته، وأيضا نتيجة للأفكار التى بثها بداخله ذلك الصحفى الشهير، بعدالة سرقة الأغنياء. تبدأ الصداقة بينهما من لحظة الصفر، قبل أن يصبح هذا الصحفى صحفيا شهيرا، وقبل أن يصبح سعيد مهران لصا شهيرا أيضا. وانتقاما من خيانة وتنكُّر الصحفى له ولمبادئه، عندما أصبح غنيا، يخطط سعيد مهران للقصاص، بسرقة هذا الصحفى الشهير. فى الوقت نفسه، كان الصحفى الشهير يتوقع حضور سعيد مهران ليلا لسرقته فى الفيلا التى يسكنها. ولأنه يقرأ أفكاره، ترك له نافذة مفتوحة ليتسلل منها ويسهل له دخول البيت ليشعره بأنه انتصر. هذا هو الشرك الدائم فى أى علاقة ملتبسة، أن باب الهرب هو باب الوقوع. عندما أيقن اللص بأنه تمكن من فريسته، أضاء الصحفى الشهير النور فى وجه اللص المذعور. هذا التوقُّع من قِبل الصحفى بأفعال اللص سببه صداقة الأفكار تلك التى نشأت بينهما، بحيث امتلك الصحفى وكشف أدق التفاصيل النفسية للص. أى علاقة بها هذه الدقة وهذا القرب، سوى علاقة الصداقة؟ ليس هذا فقط، بل تشعر أن الصحفى يتحكم فى مستقبل اللص، نتيجة لقراءته لصيرورة أفكاره التى بثها داخله. السرقة توجد لأن هناك فوارق حادة بين الناس وبين طبقات المجتمع، وهناك حاجة لا تُشبع، ونقصان فى معادلات الحياة الأساسية. ربما هناك دوافع أخرى للسرقة غير فكرة عدم التكافؤ. فى أحد البرامج التليفزيونية التى كانت مخصصة للجريمة، استضافت مقدمة البرنامج أحد اللصوص، وسألته ماذا يفعل داخل البيت عندما يقوم بسرقته. أجاب اللص بكل هدوء، أن أول شىء يقوم به،أن يفتح الثلاجة المليئة بصنوف الطعام الشهية ويلتهم أكبر قدر منها. وبعد انتهائه من سرقته وتناول طعامه، يقوم بفعل فى غاية الغرابة، أن يتغوط فى أثمن مكان فى البيت، فى غرفة الصالون الفاخرة وفوق السجادة الثمينة. ربما أرى فى هذا الفعل احتجاجا نفسيا مشوها، يكشف مدى رغبة هذا اللص فى إيذاء، أو إلحاق أقصى أذى ممكن، هؤلاء الأصدقاء الغائبون الذين أخذوا نصيبه، رغما عنه، فى الحياة. لم يكتف بسرقته، بل ترك شاهدا ماديا عليه. عادة ما تستخدم الكلاب بولها أو غائطها ليكونا حدودا لملكيتها، والتى تتذكرها عند تكرار ومعاودة هذا الفعل. ربما هو أيضا، لا شعوريا ونتيجة لتاريخ قديم مشترك بين الإنسان والكلب؛ كان يضع حدودا لملكية مؤقتة، لن يعود إليها ليزورها مرة أخرى.