كان المشهد يدعو للإشفاق بالفعل. بعد طول انتظار بشَّرتنا وكالة الأنباء التركية التى أصبحت تنطق باسم الرئاسة المصرية (!) بأن التعديل الوزارى قد اكتملت ملامحه، وبدأت فى إذاعة أسماء الوزراء الجدد. المشهد بعدها تحول إلى العبث، فباستثناء اسم أو اثنين، بدا باقى الوزراء الجدد وكأنهم قادمون من المجهول. هل يمكن أن يوضع مستقبل مصر فى هذه الظروف الصعبة فى أيدى ناس قد يكونون جيدين فى مجالاتهم، ولكنهم بعيدون عن العمل العام؟! وقد يكونون من الموثوق بهم داخل تنظيماتهم السرية أو جماعاتهم الصغيرة، ولكن هذا لا شأن له بإدارة أمور دولة بحجم مصر، والتعامل مع مشكلات مثل تلك التى نواجهها الآن. هل تحتمل الأمور أن نظل نصرخ بأن إدارة «سوبر ماركت» تختلف عن حكم مصر، وأن تنظيم «مائدة الرحمن» لا يمكن مقارنته بتنظيم اقتصاد دولة يواجه خطر الانهيار؟! قد يقول البعض إن أحمد زى الحاج أحمد، وإن من خرجوا من الوزارة ومن بقوا فيها ليسوا أفضل من القادمين الجدد، وإن الكل يشترك فى «المقاس الصغير» الذى يبدو أن الحكم لا يريد أن يتعامل مع غيره لأسباب يعرفها (!) لكن السؤال هو: ألا يكفى ما تحقق من فشل على أيدى حكومات الصغار؟! وهل تتحمل مصر المزيد، فى وقت نعرف جميعا حجم الأزمة التى وصلنا إليها، وحجم الجهد المطلوب لإنقاذ الوطن من انهيار الاقتصاد أو انفجار الفوضى؟! قد يكون هناك من يفضِّل هذا المقاس الصغير فى الحكومات، ليبقى القرار الحقيقى فى مكان آخر (!) ولكن ألا يتعظ أحد من ماض ما زال ماثلا أمامنا؟! أليس هذا ما كان يحدث أيام لجنة السياسات فى الحزب الوطنى؟ وهل مصير النسخة الجديدة من هذه اللجنة يمكن أن يختلف، لأنها غيرت محل إقامتها من مصر الجديدة إلى جبل المقطم؟! الحقيقة الأساسية من هذا التعديل الوزارى هى أن الحكم لا تشغله الأزمات التى تهدد مصر، ولا يفكر فى التعامل الجاد للخروج منها، ولكن ما يشغله شىء آخر.. أن يحكم قبضته على مفاصل الدولة حتى وهى تنهار، وأن يتم طبخ الانتخابات القادمة لمجلس النواب لضمان سيطرة الإخوان المسلمين عليه! لقد كانت الشكوى عامة من عملية «سلق الدستور».. حسنا يا سادة، سيتم طبخ انتخابات مجلس النواب على نار هادئة «التسبيك» سيكون فى غاية الإتقان، كل المستلزمات سيتم توفيرها من أول اللحم الضانى والأرز والسمن، وحتى البهارات وحبة البركة وجوزة الطيب! ربما يحتاج وزير المالية إلى سنوات حتى يعرف آلية التعامل مع الموازنة، وطرق التفاوض مع المؤسسات الدولية، وكيفية تفادى الانهيار الشامل إذا استمرت الأوضاع على ما هى عليه، ولكنه لا يحتاج إلى أى وقت لكى يضع ميزانية الدولة فى خدمة أهداف الجماعة وحزبها، خصوصا فى هذه الأيام الحاسمة قبل الانتخابات! وبعيدا عن أى اعتبارات، فسيعرف وزير الداخلية الجديد أن من سبقه لم يترك منصبه لسوء الأداء، بل لأنه فقد الرضى السامى لأصحاب القرار، والعاقل بالطبع هو من اعتبر! وفى رسالة واضحة يقول التعديل الوزارى: إن السلع التموينية الأساسية من الزيت والسكر إلى أنابيب البوتاجاز والدقيق المدعوم هى فى أيد أمينة بعد أن آلت الوزارة إلى وزير إخوانى! كما يقول التعديل الوزارى إن الحكم المحلى أصبح تحت السيطرة وأن التغييرات فى القيادات المحلية بالمحافظات لن تكون لوجه الله، بل لحسابات الانتخابات! والسؤال الآن لقوى المعارضة: هل يمكن أن تكون هناك انتخابات حرة ونزيهة، فى ظل حكومة تضع كل إمكانيات الدولة تحت سيطرة جماعة بعينها أو حزب محدد؟ التعديل الوزارى يقول ذلك بكل وضوح.. فكيف يكون التعامل مع حكومة مهمتها «طبخ الانتخابات» مع توافر خدمة «الدليفرى» وتوصيل الطلبات إلى المقطم!